د. عاطف معتمد يكتب : نهاية الأيديولوجيا !


في غضون نصف ساعة، كرر خمس مرات أستاذ الجغرافيا الشهير وفيلسوف السياسة الروسية ألكسندر دوجين أن بلاده لن تخوض حربا من أجل العرب. 

ففي الحوار الذي أجراه معه مؤخرا د. عمرو عبد الحميد يقول دوجين: على العالم العربي أن يتحرك للدفاع عن نفسه..روسيا لن تحارب من أجله".

دعنا نتفق أولا أن هذا الرأي يأتي متسقا تماما مع روسيا الجديدة لأسباب بعضها قديم راسخ وبعضها متولد حادث، وسأضع هنا بعض النقاط التي تناسب وسيط رقمي خفيف مثل فيسبوك:

على عكس ما يبدو من أن بوتين رجل أيديولوجيا إلا أن السيد فلاديمير رجل البراغماتية بامتياز، ذلك لأن روسيا بوتين - خلافا للظاهر  هي روسيا الصفقات والتعاملات الاقتصادية واللعب المراوغ وسياسة الأمر الواقع، والمصلحة المباشرة من دون أية شعارات. 

 صحيح أن بوتين يقول إن انهيار الاتحاد السوفيتي كان أكبر خسارة جيوسياسية منيت بها موسكو عبر التاريخ إلا أنه لا يستطيع فعليا استعادة هذا المجد السوفيتي لأسباب عدة أهمها الداخل الروسي الذي ظهر فيه جيل جديد مفتون بالحياة الغربية ويسعى إلى الليبرالية والاقتصاد الحر وحياة الرفاه وغير مستعد لأيديولوجيا الحقبة السوفيتية، وانا أستخدم هنا كلمة "حقبة" التي نستخدمها في الجيولوجيا للدلالة على ملايين السنين، لأعبر عن البون الشاسع بين عقلية الروسي اليوم وعقليته قبل خمسين سنة. 

وحين كانت موسكو في سوريا، فإنها كانت تفعل في السر ما يقوله ترامب في العلن، يقول ترامب بكل وضوح "سنساعد أوكرانيا لنحصل على الخامات المعدنية لصالح الشعب الأمريكي". روسيا بوتين كانت تفعل ذلك أيضا في سوريا: تقدم التسليح لنظام مرفوض من المعارضة مقابل احتكار خامات الفوسفات ومواقع استراتيجية على البحر المتوسط (المياه الدافئة حلم روسيا الأثير).

 تأكد للروس عبر العقود - من أيام عبد الناصر قبل السادات - أن العرب ليسوا حلفاء إلى النهاية، تبين للروس أن العرب يريدون أخذ أقصى المكاسب بأقل التضحيات، وبعد مرحلة السادات وكامب ديفيد تبين للروس أن العرب يشبهون الأمريكيين أكثر ما يشبهون الروس. فهناك صفات تجمع قادة العرب المفرطين في البراغماتية مع طبيعة الشخصية الأمريكية. الصفات التي تجمع الشخصية الروسية بالشخصية العربية ضعيفة نسبيا: يبدو العربي بالنسبة للروسي منفتحا خفيفا مراوغا، ويبدو الروسي بالنسبة للعربي باطنيا عميقا كئيبا.

 يقر دوجين لأول مرة بأن روسيا منخرطة في أوكرانيا لأقصى درجة ولا طاقة لديها للعرب ولا فلسطين. هذه هي المرة الأولى التي يقول فيها دوجين ذلك صراحة، ولو لم يكن هناك أفق تسوية سياسية وإقرار بنجاح روسيا في خطتها في أوكرانيا لما أعلن ذلك.

في الكتاب الذي ألفه ألكسندر دوجين - وترجمته عن الروسية مع اثنين من زملائي وأعطيته عنوان "جغرافية السياسة في روسيا" - يتبين أن دوجين منذ أكثر من 10 سنة يضع رؤاه الرئيسة على معركة أوكرانيا ويعتبر أن ضم أوكرانيا كاملة – وليس شطرها الشرقي – هو ضرورة جيوسياسية لروسيا كي تقف في مواجهة الغرب الإمبريالي. أوكرانيا هي أهم موقع لروسيا الحديثة وكل ما وراء ذلك ملفات مؤقتة تصب في صالح أوكرانيا والبحر الأسود، بما فيها ملفات الشرق الأوسط.

 في نفس هذا الكتاب يستعيد دوجين مصطلح سياسي قديم في وصف القوى العظمى حين يراهم "قطَّاع طرق" ويصف الغرب الأوروبي الأمريكي بأنهم قطاع طرق البحر ويصف روسيا بأنها قطاع طرق البر، وهذا مصطح قديم من كلاسيكيات الجغرافيا السياسية والجيوبوليتيك وليس من بنات أفكار دوجين.

 يقوم مصطلح قطاع الطرق على أن عالمنا فيه دوما قوة دولية عظمى تقوم حرفيا بممارسات قطاع الطرق على الشعوب والكيانات الأضعف على خريطة العالم. ومن أجل ذلك سمعنا دوجين في حواره مع د. عمرو عبد الحميد يقرر لأكثر من ثلاث مرات عبارة "أنت تعيش الآن بمنطق القوة الغاشمة وحدها..ترامب سينفذ خطته في غزة ولن يقف أمامه أحد ! ".

 لا نستبعد الحالة النفسية التي وقع فيها دوجين بعد حادثة الاغتيال التي دبرها له أعداء روسيا وكانت تستهدفه وراحت ضحيتها ابنته قبل عامين، ويمكن مقارنة ذلك من ضعف الهمة وعزيمة الطرح في لقاء الأسبوع الماضي بما كان عليه دوغين قبل ذلك. 

غير أن الحقيقة أن دوجين ليس وحده المنهك بل إن روسيا بوتين أيضا منهكة، رئيسها يأخذ في التأخر في العمر وحمله السياسي الداخلي والخارجي ثقيل بأكبر مما يتحمله عمره، ومشروعه بوضع كل السلطة في يده ويد الجوقة المحيطة به أمر بالغ الخطورة على مستقبل روسيا رغم المكاسب التي حققتها في أوكرانيا آنيا ومرحليا. 

 لا يمكن لدوجين أو غيره إخفاء خسائر روسيا بالخروج من الشرق الأوسط، وحتى لو عادت روسيا لاحقا في شكل قواعد عسكرية أو شركات حربية (مثل شركة "فاجنر" التي أسسها صديق بوتين المقامر الذي تم اغتياله مؤخرا) إلا أن هذه صفقات هزيلة ومتواضعة للغاية بطموحات روسيا في العالم العربي. وسبب ذلك هو الأزمة الديموغرافية الخطيرةة التي تواجه روسيا وهي أزمة تفوق مشكلات التسليح والجغرافيا الطبيعية، وقد ابتلعت الحرب الأخيرة أرقاما ضخمة من الشباب الروسي لم يكن الرصيد الديموغرافي يتحمل خسائرهم.

ما تزال علاقة روسيا بإيران هي أقوى علاقات الشرق الأوسط، وكما كتبتُ قبل عشرين عاما - حين كنت شابا - فإن روسيا تريد أن تساعد إيران لكن ليس إلى الدرجة التي تصبح فيها إيران خطرا على روسيا نفسها. إيران هي أكبر دولة إسلامية على حدود روسيا ولها نفوذ ثقافي قديم في إقليم القوقاز. لكن تحذر روسيا من أن طهران يمكن في أي وقت أن تقتنص تراجع روسيا عن قوتها في التخوم المشتركة فتتوسع إيران الطموحة في القوقاز وآسيا الوسطى. 

وكما كتبت قبل عشرين سنة: "إيران النووية على حدود روسيا الجنوبية خطر كبير أكثر من كونه مفيد لروسيا" وبالتالي فإن روسيا ستساعد إيران فقط في الحدود التي تبقى فيها إيران مشاكسة للغرب لكنها غير مهددة للقوى الإقليمية في جنوب روسيا.

 يعتبر ألكسندر دوجين - وكما يتضح في الكتاب الذي ترجمناه له ويتجاوز عدد صفحاته 500 صفحة - من أكثر المفكرين الروس الذين حذروا قبل أكثر من 15 سنوات من ضرورة ظهور مفكرين عرب يجدون حلا للأزمة الجيوسياسية الخطيرة التي تعيشها بلادهم في مناطق التكسر. 

يقول دوجين: لابد من علماء جغرافيين عرب يضعون مخرجا لبلادهم أمام هذه الصراعات العالمية التي تتوسع على حساب أرضهم! 

 لا أرى جديدا في تصريح دوجين بأن روسيا لن تخوض حربا من أجل فلسطين، فالأمر أصبح واضحا لكل ذي عينين "قادة العرب أنفسهم لن يخوضوا حربا من أجل فلسطين..بل هي مرحلة التشرذم والانقسام والصراع الداخلي".

 لا تعتبر مرحلة الانقسام الداخلي والتشرذم كلمة النهاية في أي أمة، فروسيا نفسها خاضت هذه المرحلة لدرجة جعلت الدول المجاورة تأتي إليها وتحتل أراضيها، وما العداء الحالي تجاه بولندا إلا لأن بولندا في بعض فترات التاريخ القريب احتلت الأراضي الروسية، قبل أن يفعل ذلك نابليون وهتلر. 

 ورغم الثقل الكبير لمفكر مثل دوجين إلا أنه يبدو حائرا ويسأل أكثر من مرة "لماذا فعلت حماس كل ذلك..لماذا جلبت كل هذا الدمار لقد كنت أظن أنها رتبت مع العرب المحيطين بها ؟". 

وبالطبع هذا سؤال برئ في ظاهره، لأن كل حركة عسكرية وكل تسليح ضد أمريكا في المشرق العربي إنما جاء بعلم ودعم من روسيا، ليس بالضرورة عن طريق مباشر ولكن عن طريق غير مباشر من خلال إيران. 

نحتاج إلى مقال مستقل مستفيض لمناقشة مدى خطة روسيا لاستغلال حماس والشرق الأوسط للضغط على الغرب لتسوية مصالحها في أوكرانيا.

 وأختم بالقول إنه قبل أكثر من ثلاثين سنة توقع المفكر الأمريكي صمويل هنتنجتون أن الحل المناسب لمواجهة التعملق الأمريكي هو قيام تحالف روسي – إسلامي، لكن للأسف لم يتحقق ذلك لأسباب عديدة، قليل منها يخص روسيا وقدرتها على العمل، وكثير منها يخص العرب أنفسهم، العرب الذين يشبهون الأمريكيين أكثر ما يشبهون الروس 

تعليقات