أحمد عبد الجواد يكتب : العلم في سورة يوسف


 إشراقات المعرفة بين الفطرة والوحي

في رحاب سورة يوسف، تتجلى معاني العلم في أسمى صورها، ممتدةً عبر مشاهد السورة، تضيء دروب الحكمة، وتنسج خيوط الفهم بين الإلهام الإلهي، والفطنة العقلية، والتجربة الإنسانية. فليس العلم في هذه السورة مجرد إدراكٍ نظري، بل هو سرٌّ إلهيٌّ يتفاعل مع واقع الحياة، ليكون مفتاح الفرج في أوقات المحن، وسُلَّمًا للرقي في مدارج التمكين.

العلم في رؤى يوسف: فتوحٌ ربانية

يبتدئ العلم في السورة مع يوسف الصديق، حين يتجلى في صورة "الرؤيا"، التي كانت إشعارًا لقدره المحتوم. ويُعلِّم الله يوسفَ تأويل الأحاديث، كما في قوله تعالى:

﴿وَكَذَٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ ٱلْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُۥ عَلَيْكَ﴾ (يوسف: 6).

وهنا يبرز العلم كمنحة إلهية، لا كسعيٍ بشريٍّ محض، بل اصطفاءٌ وفضلٌ ينمو في ظل التقوى.

العلم في مواجهة الفتنة: البصيرة نورٌ

وحينما يواجه يوسف فتنة امرأة العزيز، تتجلى صورة أخرى من العلم، حيث يهب الله له "برهان العلم" الذي يثبّته على طريق الطهر والعفة:

﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِۦ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَآ أَن رَّءَا بُرْهَٰنَ رَبِّهِۦ﴾ (يوسف: 24).

هنا العلم ليس معرفة عقلية فحسب، بل بصيرة يقينية تُنير للقلب سبيل الحقّ، وتحصنه أمام غوايات النفس والهوى.

العلم في السجن: نورٌ في الظلمات

وحين أُودع يوسف السجن ظلمًا، لم يكن السجنُ قيدًا لعلمه، بل صار منارةً لإشعاع حكمته. فقد وظَّف علمه بتأويل الرؤى ليهدي رفاقه، وليؤكد لهم أن هذا الفتح لم يكن من ذاته، وإنما هو وحيٌ من الله:

﴿ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِى رَبِّىٓ ۚ إِنِّى تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍۢ لَّا يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ﴾ (يوسف: 37).

وهنا تتجلى قيمة "العلم الموهوب"، حيث يُربط دوماً بمنشئه الحقيقي: الله وحده.

العلم في تأويل رؤيا الملك: دهشة الإدراك

حينما استعصى تأويل رؤيا الملك على حكماء القصر، كان العلم عند يوسف، الذي لم يرَ في معرفته تميّزًا شخصيًّا، بل أداة لإنقاذ الناس من المجاعة، فقال:

﴿تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا﴾ (يوسف: 47).

وهنا يظهر العلم كتخطيطٍ وتدبير، وكشفٍ للحكمة الإلهية في الابتلاء والفرج.

العلم والتمكين: قيادةٌ مبنية على المعرفة

ولمّا بلغ يوسف التمكين، لم يكن ذلك بسلطة أو قوة، بل بشهادةٍ على علمه وكفاءته:

﴿قَالَ ٱجْعَلْنِى عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلْأَرْضِ إِنِّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ (يوسف: 55).

وهنا يظهر العلم كمعيار للتكليف، فلا سلطة بلا علم، ولا ولاية بلا دراية.

العلم في يعقوب: يقين الأنبياء

أما يعقوب عليه السلام، فقد كان علمه علم يقينٍ مستندًا إلى الفراسة الإيمانية، حيث قال لأبنائه حين ظنوا أن يوسف مات:

﴿إِنِّى لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَآ أَن تُفَنِّدُونِ﴾ (يوسف: 94).

فهو لم يتعلم ذلك من مصدر بشري، بل كان "علم القلب" الذي يفيض بالإلهام واليقين.

العلم في خاتمة السورة: التواضع أمام العلي سبحانه 

وبعد أن تجلت كل هذه الصور، لم ينسَ يوسف أن ينسب العلم لصاحبه، فقال في ختام مسيرته:

﴿رَبِّ قَدْ ءَاتَيْتَنِى مِنَ ٱلْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ ٱلْأَحَادِيثِ﴾ (يوسف: 101).

ليكون ختام العلم تواضعًا، وذروة المعرفة افتقارًا إلى الله، إذ هو ﴿عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾.

خاتمة: العلم بوابةُ العدل والفرج

تُعلمنا سورة يوسف أن العلم ليس رفاهية، بل هو مفتاح الحلول، وجسر العدل، وسُلَّم الرفعة. هو بوصلة المصلحين، وسلاح الممتحَنين، وأمانة المستخلَفين. هو النور الذي يسبق الخلاص، والصبر الذي يصحب الفرج، والحكمة التي تحفظ العدل في الأرض.

فهل لنا من يوسف في زمننا، يُعلّمنا كيف يكون العلم نورًا، لا غرورًا؟ 

تعليقات