محمد حماد يكتب : قصة آية (2 ) "وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا"


 الله جَلَّ في عُلاه ... هل يخاف؟ 

ما من مرة مررت بهذه الآية الكريمة في تلاوتي أو في صلاتي إلا تفكرت في المقصود بالخوف في قوله تعالي: "وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا"، متحرزًا من التفسير الشائع الذي نقرأه في خطب الخطباء أو تفسير المفسرين، الذين يذهبون إلى أن المقصود في الآية "وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا" هو الله سبحانه وتعالى، من الذين قالوا إن الضمير يعود على الله:

ـ ابن كثير: قال إن المعنى أن الله أهلكهم بقدرته وسلطانه، ولا يخاف من تبعات ذلك، لأنه القاهر فوق عباده.

ـ القرطبي: ذكر أن الضمير يعود على الله، أي أنه سبحانه لا يخشى مؤاخذة أحد أو اعتراض معترض على ما فعل.

ـ الطبري: رجح أن المعنى هو أن الله أهلكهم ولا أحد يمكن أن يعترض أو يرده عن حكمه.

ـ البغوي: قال إن الله ليس فوقه قوة تخيفه، فهو الذي يقضي ولا يُعقب عليه أحد.

وقد تابعهم في ذلك سيد قطب في ظلال القرآن لكنه يقدم أسئلة وتفسيرًا مضافًا يقول: "سبحانه وتعالى. ومن ذا يخاف ? وماذا يخاف ? وأنى يخاف ? إنما يراد من هذا التعبير لازمة المفهوم منه. فالذي لا يخاف عاقبة ما يفعل، يبلغ غاية البطش حين يبطش. وكذلك بطش الله كان: إن بطش ربك لشديد. فهو إيقاع يراد إيحاؤه وظله في النفوس". 

قليل من المفسرين وعلماء اللغة ذهب إلى أن الضمير يعود إلى أشقى ثمود (الذين عقروا الناقة)، أي أنه قام بفعلته ولم يخف العواقب، واستدلوا على ذلك بأن سياق الآيات يتحدث عن مجريات الأحداث مع ثمود فناسب أن يعود الضمير إلى صاحب الفعل المباشر وهم من عقروا الناقة. 

بمعنى أنه فعل ذلك دون أن يخشى عاقبة فعله، وهذا من باب الإخبار عن جرأته على المعصية.

إذن جمهور المفسرين رجحوا أن الضمير يعود على الله تعالى، لأن السياق يتحدث عن العقوبة الإلهية لثمود، والله سبحانه لا يخاف أحدًا ولا يخشى عواقب أفعاله لأنه العادل الحكيم.

التفسير الآخر الذي يعود فيه الضمير إلى أشقى ثمود له أساس لغوي لكنه أضعف من الناحية السياقية والتفسيرية.

هناك من المفسرين من ذهب إلى أن الضمير في الآية "وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا" يعود إلى العقوبة نفسها، أي أن العاقبة أو النتيجة الحتمية للعقاب وقعت بلا تردد ولا خوف من أي تبعات.

وأشاروا إلى أن التركيب اللغوي يحتمل أن يكون المعنى: أن العقوبة جاءت حتمية ونهائية دون خشية من نتائج لاحقة.  وهذا التفسير يشير إلى أن العقوبة كانت قاطعة ولم يكن هناك مجال للخوف من أي عواقب تالية لها، أي أنها نفذت بطريقة نهائية وحتمية. (ركزوا على هذا المعنى سنعود إليه لاحقًا).

ظللت طول الوقت أبحث عن معنى آخر، لا يطاوعني قلبي على الاطمئنان إلى أن الضمير عائد على الله جل في علاه، ومستبعدًا ـ أيضًا ـ أن يكون الضمير في عقباها عائد إلى أشقى ثمود فقد تأخر في السياق إلى آخر الآيات، وهو الأضعف من الناحية السياقية والتفسيرية.

حتى قرأت إشارة جاءت في تفسير "التحرير والتنوير" للشيخ الطاهر ابن عاشور يقول فيها: "ويَجوزُ أنْ يكونَ قولُه: وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا تَمثيلًا لحالِهِم في الاستِئصالِ بحالِ مَن لم يَترُكْ مَن يَثأَرُ له، فيكونَ المثَلُ كِنايةً عن هَلاكِهِم على بَكرةِ أبيهم لم يَبْقَ منهم أحدٌ".

ما لفت نطري هنا أن العقوبة نزلت بهم فاستأصلتهم عن بكرة أبيهم لم تترك من يثأر لهم، ولا خوف بعدها لمن يعقبهم. 

صحيح أن عُقْبَاهَا: تعني: عاقِبَتَها وتَبِعَتَها، ولكن أصل (عقب): يدُلُّ على تأخيرِ شَيءٍ، وإتيانِه بَعْدَ غَيرِه، والمعقبات في قوله تعالى: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) هم ملائكة الليل والنهار لأنهم يتعاقبون، والتعقيب في الصلاة يعني الجلوس بعد أن يقضيها العبد لدعاء أو مسألةـ 

وفي الحديث "من عقب في صلاة فهو في الصلاة"، وعقب الرجل إذا مات وخلف عقبًا، أي ولدًا، وفلان يسعى عقب أل فلان أي بعدهم.

هذا يعني أن عقباها يمكن أن تفيد العقوبة وهو ما يذهب إليه جمهور المفسرين، وتفيد كذلك العقب بمعنى من بقوا بعد هلاكهم ومن جاءوا من بعدهم.

بعدها بالصدفة استمعت إلى التفسير الذي ذهب إليه الشيخ الفلسطيني بسام جرار والذي يقول فيه إن المقصود بالضمير في "عقباها" يعود على الناجين بعد وقوع العذاب، والمعنى أن الله دمدم بقوم ثمود الكافرين، 

وسوى بهم الأرض، حتى لا يتضرر الناجون من بعدهم، وأن "عُقْبَاهَا" في الآية تشير إلى من يبقون بعد وقوع العذاب، أي الناجين أو من شهدوا العقوبة ولم يصيبهم الهلاك.

هذا التفسير محاولة لفهم الآية من زاوية مختلفة. وأن المعنى هو أن الله دمر الكافرين من قوم ثمود بطريقة لا تؤذي من بقي من المؤمنين.

هل هناك شك يتطلب أن يُذَّكِّر المولى بقدرته وعظمته أنه أهلك ثمود دون أن يخاف عاقبة ذلك؟  هو العلى القدير له أن يفعل ما يشاء وقتما يشاء كيفما يشاء ولا يُسأل عما يفعل، فكيف يمكن تصور أنه يخاف أو حتى يبالي وله المثل الأعلى؟

ما جعلني أميل إلى هذا التفسير أني أثناء بحثي وجدت أن الآية لها قراءتان، وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر {فلا يخاف عقباها} بفاء العطف تفريعًا على {فدمدم عليهم ربهم} ، وقرأ الباقون من العشرة: {ولا يخاف عقباها} بواو العطف أو الحال.

رواية فلا يخاف عقباها، تتكرر الفاء، تكرارًا مقصودًا بالضرورة، والفاء حرف عطف يُفيد الترتيب مع التعقيب، وكثيرًا ما تتضمن مع الترتيب معنى السببية،

 مثال: قرأتُ ففهمت، اقرأ أنت الآيات بهذا الإيقاع، وهذا التراتب وخذا التعقيب واحدة إثر أخرى: (فَكَذَّبُوهُ، فَعَقَرُوها، فَدَمْدَمَ، عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ، فَسَوَّاها، فلاَ يَخَافُ عُقْبَـاهَا).

لاحظ أنه سبحانه دمدم عليهم بمعنى أطبق عليهم طبقة فوق أخرى، حتى سواهم جميعًا بالأرض، لم يُبق منهم أحدًا، ولا أثرًا، ولا ضررًا.

انظر إلى سياق الآيات مرة أخرى واسأل نفسك: هل لأنه ـ سبحانه ـ لا يخاف عقباها، أم حتى لا يخاف من يعقبونهم؟

عندي أن هذا التفسير يزيل أي شبهة "الخوف" عن الله تعالى، وهو يتوافق مع سنن الله في العدل والإحكام، حيث أن العذاب الذي حل يقوم صالح لم يكن كارثةً بلا ضبط، بل كان حكمةً دقيقةً استأصلت من استحق العقاب دون أن تترك أثرًا مخيفًا أو تبعات مدمرة لمن نجاهم من المؤمنين أو من جابوا بعدهم وخلفوهم على أرضهم.

تعليقات