معصوم مرزوق يكتب : زمن المهلبية !!


(1)

كلما أنخلع أو سقط ضرس أو ناب أو سنة من فكي ، تنتابني حالة عميقة من التأمل مقرونة بالأسي ، فهذا جزء من تاريخي يسقط أو يخلع خلعاً ، ذلك الذي صاحبني مشوار العمر ، طحناً وقطعاً ومضغاً ، وشاركني الإستمتاع بطيب الطعام والشراب ، وتلون بدخان سجائري وسائل القهوة ، وصرخت منه ألماً في ليال لا تنسي .. ذلك الجزء العضوي الحميم ، يغادر بلا عودة .. فهو مثل العمر لا يعود …

واليوم فقدت سنة أخري ، ظلت تترنح لفترة طويلة بينما أتفادي الإعتراف بهذه الحقيقة ، فهي من ضمن تشكيلة أسنان الواجهة ، أي تلك التي تظهر عند الحديث أو الإبتسام ، ولن يكون سقوطها سوي بداية لتوالي سقوط باقي الواجهة مع ما يلزم من تجعيدات وتشوهات أخري ، لذلك ظللت أعاند وأقنع نفسي أنها سوف تثبت وتستعيد مكانتها وأن ذلك الترنح ليس إلا أمراً طارئاً يرتبط بشدة إنفعالي بسبب المذابح التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني ، وتغافلت عن إزدياد الترنح المصحوب بإلتهاب وألم ، وساعدني في ذلك أن آلاماً أكبر كانت تحتويني ويهون أمامها أي ألم … ظللت صامداً ، إلا أن السنة المتآمرة لم تستطع ، فسقطت اليوم وحدها ، دون أي ضغط أو إجبار ، وحملتها بين أصابعي – كالعادة – متأملاً في أسي ..

(2)

لماذا يترنح كل شيئ ويسقط وحده ، دون ضغط أو إجبار ؟ .. هل هو فعل الزمن وحده ؟ .. ولكن أين فعل الإرادة ؟؟ .. أن منظر "السنة الساقطة " لا يغريني بالتفلسف ، ويكفي القول هنا أن ذلك هو عمرها الإفتراضي ، لقد أدت مهمتها علي خير وجه وجاء دورها في التقاعد ، بالضبط كما سيحل دوري ذات يوم .. ولكنها لم تنتقل إلي التقاعد ، لأن المتقاعد يمكن أن يقوم ، أنها ماتت ، شطبت من سجل الحركة والنشاط بلا عودة ، واياً ما كانت إرادة المقاومة عندي فأنها كانت ستسقط ، وأياً ما كان تغافلي عن الحقيقة ، فأنها غالبة وهاهي أمامي بلا حول أو حركة .. 

هل يمكن أن تسقط الأمم والشعوب مثل الأسنان ؟  هل يمكن أن تتخلخل وتترنح ثم تسقط ؟ وهل تفيد محاولة التغافل أو التعامي عن هذا الترنح علي أمل أنه مؤقت وطارئ ؟  ولكن ما العمل إذا سقطت بالفعل ؟  وإذا ماتت ، هل تعود ؟؟ 

(3)

ذهبت الأمثال علي أن صعوبة إنتزاع الشيئ تشبه " خلع الضرس " ، فيقال مثلاً أن فلان لا يتنازل عن الموضوع الفلاني ولا بخلع الضرس .. ، ولكن ذلك يعني ايضاً أنه يمكن أن يتنازل بعد خلع ضرسه !! .. ويبدو أن فلان علي إستعداد كامل للتنازل وأنه فقط يتمحك بموضوع خلع الضرس ربما كي يقوم خصمه بعملية الخلع مجاناً … ولكنني لم أكن أتمحك ، وكنت أريد الإحتفاظ بسنتي ، لكنها سقطت وحدها ، دون أن أتنازل عنها ، ودون أي إستعداد للتنازل أصلاً … وهكذا يمكن إستنتاج أن هناك نوعين من " خلع الضرس " : نوع لا مناص منه ، ونوع يسعي بعض الناس إليه ، ولكن النتيجة في الحالتين واحدة وهي الخسارة ، سواء أكان التنازل طوعاً أم إجباراً .. 

والحديث عن الأسنان ، يستدعي علي الفور فواتير أطباء الأسنان ، فطبيب الأسنان يعيش علي خسارتي وخسارتك لأجزاء حية من تاريخنا ، فهو حيناً يوهمك بأن المسألة لا تعدو تسوس بسيط في ذلك التاريخ يمكن علاجه ، ويقوم بآلاته الحديثة بتخريم تاريخك ، وحشوه بجزء من تاريخ مصنوع ، ولأنه غير أصيل يسقط ، كي يعاود حشوه ، وفي كل مرة تدفع مقابل تزييف تاريخك من مالك ومن وقتك ومن أعصابك ، ثم في مرحلة معينة ينصحك الطبيب بتركيب " طربوش " ، وتخرج من عيادته سعيداً بذلك الطربوش الذي يحمل بعد ذكريات الماضي في ثوب عصري ، ولكن سرعان ما يسقط الطربوش أيضاً لنفس السبب السابق ، وينصحك الطبيب – كي تحافظ علي تاريخك – أن لا تأكل أو تشرب ساخناً أو بارداً ، فالعلاج هو الفتور ، أن يصبح طعامك وشرابك فاتراً ، أي التوقف عند الوسط تماماً ، ومع ذلك ، أو رغماً عن ذلك يستمر التدهور ، وتستمر محاولات الطبيب المخلصة في إنقاذ التدهور بحلول صناعية مبتكرة ، دون أن يتوقف لحظة واحدة عن إنتزاع مالك ووقتك وأعصابك … 

والمشكلة أن عصب الضرس قد مات وتعفن .. ولم تعد هناك عوائق للتنازل ، فما أسهل خلع الضرس ، وكل محاولات الطبيب لا تعدو سوي خداع للنفس وتمويه علي الحقيقة ..

(4)

لقد خارت الأعصاب وانكمشت اللثة وأصبح الفك منفكاً ، لابد من التسليم بواقع الحال ، لقد انقضي زمن طحن اللحوم وحل زمن المهلبية ، فلا بارد ولا ساخن ولا حتي فاتر ، لقد تساوي المذاق وأصبح " لا مذاق " .. ومن محاسن هذا الإعتراف أنه يوفر مبالغاً طائلة لأطباء لا يفعلون شيئاً سوي خداعنا وإيهامنا بقوة لم تعد موجودة ، وإرادة مسوسة ، وطرابيش لا تثبت فوق الرؤوس .. لن يكون أحد مضطر للإدعاء بأنه لن يتنازل إلا بخلع الضرس ، حيث لا يوجد ضرس ولا دياولو ، وإذا أراد أحد أن يكون جاداً فعليه أن يهدد بأنه لن يتنازل إلا بخلع الرأس أو خلع الروح نفسها ..

ولأنه زمن المهلبية ، فلن يفيد التباكي علي زمن مضي ، فالماضي لا يعود مثل الأسنان تماماً ، وعلي كل من يعنيه الأمر أن يبحث عن طاقم أسنان صناعية تتيح له بالكاد أن يلحس سائل المهلبية ، دون أن يتعجب إذا أحس أن عقله أصبح مهلبية ، وأن أفكاره مهلبية ، وأن جماع إرادته وقراراته مهلبية … ثم لماذا يتعجب ، إذا كانت حياته كلها في التحليل الأخير كانت مجرد سوس وخلخلة وإهتزاز تمهيداُ للخلع أو السقوط … 

(5)

تأملت في السنة الساقطة وقد حال لونها وغشت أطرافها بقايا من آخر لون أسود لدخان سيجارتي .. سترتاح هذه السنة أخيراً بعد نصف قرن من مكابدة عنادي وإصراري ، فكم كززت بها غضباً وإنفعالاً ، كم عضضت بها علي أصابع الندم ، وكم تحملت مرارة لعابي وأحزان أيامي … أنها ترحل اليوم عن عالمي ، آثرت ألا تصاحبني إلي مقبرتي ، رفضت أن تدفن معي .. لقد قررت أن تمضي وحيدة مثل صاحبها ، وكأنها لا تريد أن تعيش معي زمن المهلبية بعد أن أستمتعت بزمن اللحوم والفواكه والخضروات ، أنني شديد الزهو بها لإصرارها علي الإستقلال رغماً عن كل محاولاتي ، لقد أنفذت إرادتها وانتحرت في ريعان شبابها تفادياً لمهانة زمن المهلبية .. 

والخوف كل الخوف من أن ما تبقي في فكي من أسنان وضروس قد يتخذون كذلك قرارات مشابهة ويتركوني أواجه وحدي هذا الزمن الرجراج الأملس … وداعاً يا سنتي العزيزة ، وأشكرك علي سنوات الخدمة الطويلة التي تفانيت فيها لإسعادي ، واعذريني إذا كنت عاجزاً عن أن أفعل شيئاً في تاريخك المسوس ، كان لا بد أن تسقطي .. تلك هي الحقيقة بكل الأسي والأسف …

تعليقات