"العملية سيانيد".
«حرب سنة ٥٦ أسرارها كلها ما اتعرفتش إلا السنة اللى فاتت.. اتنشرت السنة اللى فاتت بعد ١٠ سنين، حرب سنه ٦٧ مش حنقدر نعرف أسرارها كلها دلوقت، حنعرف أسرارها بعد سنوات، ولكن أمريكا لعبت دور فى هذا العدوان، الكثير من هذا الدور مازال غامضاً».
من خطاب الرئيس "جمال عبد الناصر" فى 23 يوليو 1967 .
مر أكثر من نصف قرن على هزيمة 5 يونيو 1967، وهى هزيمة ألقت بظلالها المظلمة على مسار مصر السياسي ، وما زالت أثارها ممتدة حتى الأن .
واللافت للنظر ان هزيمة 1967 لم تحقق أهدافها السياسية لمصلحة العدو الأمريكى الصهيونى ، إلا بعد انتصار مصر العسكرى فى حرب 1973 ، بسبب خطوات الرئيس السادات السياسية أثناء الحرب وبعدها ، وصولاً لتوقيعه معاهدة السلام مع إسرائيل عام 1979 ، والتى حققت لإسرائيل ما عجزت عن تحقيقه بالسلاح عقب هزيمة 5 يونيو 1967 .
يحلو للكثيرين من خصوم جمال عبد الناصر وفكره تلخيص معركة 1967 فى كونها نتاج طبيعى لنظام الحكم الناصري ، أو بسبب قيادة المشير عبد الحكيم عامر للجيش المصري وأخطاءه فى إدارة المعركة .
بلا جدال يتحمل الرئيس جمال عبد الناصر المسئولية كاملة عن الهزيمة فى حرب 1967، وقد كان هو ذاته أول من اعترف بذلك فى خطاب استقالته من رئاسة الجمهورية فى مساء يوم 9 يونيو 1967، وبلا شك كانت قيادة المشير عامر للمعركة كارثية وأدت لتعميق الهزيمة وتوسيع أثارها ، ولكن لا سياسات عبد الناصر ، ولا قيادة عامر للجيش المصري، كانا هما فقط السبب الوحيد للهزيمة ، فهناك أطراف عدة عربية وغربية ساهمت فى رسم سيناريو معركة 1967 ، لتخرج الحرب بتلك الطريقة ، بالطبع ذلك لا يعفى عبد الناصر و عامر من المسئولية ، ولكن لا بد من معرفة أدوار كل من ساهم فى حدوث تلك الهزيمة بهذا الشكل.
فى السطور التالية سأستعرض بعض ما تم كشفه عن خفايا الدور الأمريكى فى حرب 1967 ، عبر قراءة لكتاب (العملية سيانيد) للكاتب الصحفي البريطاني ذو الأصول الاسكتلندية "بيتر هونام"، والذى سبق له أن كشف أسرار إسرائيل النووية عام 1986 ، بعدما نقلها له الخبير النووي الإسرائيلي " مردخاى فعنونو ".
صدر كتاب "العملية سيانيد" فى نوفمبر 2003 ، فى 289 صفحة من القطع الكبير عن مؤسسة Vision.
"سيانيد" هو الأسم الكودى لخطة حرب 1967 التى تم إعدادها عبر البنتاجون ووكالة المخابرات المركزية الأمريكية مع الجيش الإسرائيلى والمخابرات الإسرائيلية "الموساد".
بدأ الترتيب للخطة فى فبراير 1966 ، وكان ضابط الاتصال بين الجانبين الإسرائيلى والأمريكى للتنسيق للعملية وتنفيذها هو ضابط المخابرات الأمريكى "جون هادون" مدير مكتب وكالة المخابرات المركزية الأمريكية فى تل أبيب ، لم يتم اتخاذ الخطوات النهائية لتنفيذ عملية "سيانيد" إلا بعدما أنتجت إسرائيل أول قنبلتين ذريتين لها فى مطلع عام 1967.
لم يكن هدف الرئيس الأمريكى جونسون من حرب 1967 فقط هو هزيمة الجيوش العربية ، واحتلال أجزاء من أراضي مصر وسورية والأردن ، بل كان المخطط طبقاً للعملية "سيانيد" هو عبور الجيش الإسرائيلى لغرب القناة ، والزحف نحو القاهرة والقبض على "جمال عبد الناصر" وتسليمه للأمريكيين ، وفى حال تعذر ذلك فلا بأس من قتله ، وقد أعاق تنفيذ الخطة رفض "موشى ديان" لتنفيذها بعد اندلاع المعركة ، وتحججه للرئيس جونسون بأن ذلك يفوق قدرات قواته ، وسيقوض الانتصارات التى تم تحقيقها.
قصة قصف إسرائيل للمدمرة الأمريكية "ليبرتى" يوم 8 يونيو 1967 ، لم تكن بسبب تصويرها لعمليات قتل الجيش الإسرائيلى للأسرى المصريين خلال الحرب ، أو بسبب تصنتها على الجيش الإسرائيلي ، الموضوع أعقد من ذلك بكثير، وقرار قصفها اتخذه الرئيس الأمريكى "جونسون" بعد رفض "ديان" تنفيذ عملية احتلال القاهرة للقبض على "عبد الناصر" أو قتله ، فقد كانت الغواصة الذرية "أندرو جاكسون" تحت المدمرة "ليبرتى" ، وهى التى قامت بتصوير قيام الطيران الإسرائيلي والزوارق البحرية الإسرائيلية بقصف ليبرتى ، وقتل 34 جندياً أمريكياً من طاقمها .
كان مخطط الرئيس الأمريكى جونسون هو إغراق "ليبرتى" بالكامل ، واتهام الطيران المصري بتشجيع من السوفيت بإغراقها ، ثم قيام سرب طائرات فانتوم أمريكية من قاعدة أمريكية بإيطاليا يحمل قنابل ذرية تكتيكية بالتوجه للقاهرة وقصفها ذرياً خاصة مطار غرب القاهرة ، والذى كان الأمريكيون على يقين من وجود قاذفات ثقيلة سوفيتية به ، وبذلك يسقط النظام المصري وتتعرض روسيا لأكبر لطمة فى تاريخ علاقاتها بمصر والدول العربية .
كان جونسون على استعداد للذهاب لحرب عالمية ثالثة لتنفيذ مخططه ، ولكن خطة جونسون فشلت بسبب رصد سفينة تجسس سوفيتية ضمن الأسطول السوفيتى بالبحر المتوسط لعملية قصف الطيران الإسرائيلي للمدمرة "ليبرتى" ، وإبلاغها قيادة الأسطول الأمريكى السادس بما يجرى .
كما رصدت الغواصات السوفيتية فى البحر المتوسط وجود الغواصة الذرية الأمريكية "أندرو جاكسون" تحت المدمرة " ليبرتى" ، مما أدى إلى إيقاف العملية كلها رغم انطلاق سرب الفانتوم الأمريكى بالفعل من قاعدته بإيطاليا ليقصف مصر.
شارك فى الحرب أيضاً سرب استطلاع أمريكى كان متواجدا قبل المعركة فى مطار عسكرى إسرائيلي بصحراء النقب ، وقد قام بعملياته فوق سيناء خلال الحرب ، كما تواجد فريق من الخبراء الأمريكيين برياً فى سيناء خلال المعركة ، لقيادة الحرب الإلكترونية ، وللتجسس على الاتصالات المصرية ، ولشل قدرة الرادارات المصرية.
بسبب ما جرى للمدمرة ليبرتى ، قدم " سايروس فانس " نائب وزير الدفاع الأمريكى استقالته من منصبه ، كما استقال مدير العمليات البحرية الأمريكية الأدميرال " ماكدونالد " من منصبه احتجاجاً على مخطط الرئيس الأمريكى جونسون .
هذا ملخص لما كتبه "بيتر هونام" فى كتابه وهو يحاول فك لغز قصف إسرائيل للمدمرة "ليبرتى" خلال الحرب ، ورفض الإدارة الأمريكية التدخل لإيقاف ذلك .
اللافت للنظر ان "روبرت ماكنمارا" وزير الدفاع الأمريكى وقتها أصدر تصريحاً رسمياً قال فيه : "لا يمكن الخوض فى تفاصيل هذا الموضوع قبل أن تتمكن اللجنة الخاصة التى شكلتها وزارة الدفاع من إتمام تحقيقاتها".
بالفعل تم تشكيل لجنة تحقيق عسكرية أمريكية برئاسة الأدميرال "إيزاك كين" وقد أصدرت اللجنة أوامرها لمن بقوا أحياء من أفراد طاقم المدمرة "ليبرتى" وجاءت كالتالي : "مطلوب منكم جميعاً أن تمتنعوا عن الإجابة على أى سؤال يوجه لكم بشأن تفاصيل ما حدث ، وإذا تعرضتم للإلحاح فيكفى أن تقولوا إن ما جرى حادث وقع بطريق الخطأ وقد اعتذرت عنه إسرائيل ، وليس لكم التصريح بأكثر من ذلك ".
كان تعليق الرئيس الأمريكى جونسون على ما جرى للمدمرة "ليبرتى" هو :
"إن اعتراف الإسرائيليين بالحادث واعتذارهم عنه هو لمصلحتهم ، فالحادث قد وقع فعلاً وهو مؤسف ، ولكننا لا نرى أن هناك ما يقتضينا أن نعطى معلومات أكثر تفصيلاً عنه".
بعد توقف القتال فى حرب 1967 ، قال الرئيس الفرنسي "شارل ديجول" واصفا الحرب:
" المعركة أمريكية والأداء إسرائيلي" .
ولكن الرئيس ديجول نسى وهو يتفوه بذلك ، ان التعاون العسكرى الفرنسي الإسرائيلى خاصة فى مجال الطيران ، كان قد وصل لمستويات غير مسبوقة ، كما أن فرنسا كانت هى التى منحت إسرائيل كل أسرار صناعة القنبلة الذرية .
فى الواقع كانت المعركة غربية والأداء إسرائيلي ، وترتب عليها تعطيل أخر محاولة عربية لدخول التاريخ من جديد واللحاق بالعصر.
ومن يدرى ما الذى قد تكشفه لنا الأيام القادمة عن خفايا الدور الأمريكى فى حرب 1967 .
المجد والخلود لكل شهداءنا فى معاركنا ضد الهجمة الأمريكية الصهيونية على وطننا.
تعليقات
إرسال تعليق
أترك تعليق