هل هذه هي مصر ؟
الإجابة المباشرة هي : " نعم " .. الموقع الجغرافي نفسه لم يتغير ، النيل ، المدن ، القري ، الشوارع والحواري ، الإهرامات ، خان الخليلي ، الازهر ... نعم هي مصر الكائنة منذ الآزل ، وستظل حتي أخر الزمان ..
ربما تكون الإجابة من البعض بـ "لا" .. علي أساس أن أخلاق الناس تغيرت ، البلطجة ،انعدام الأمن ، ضياع الحياء ، غموض المستقبل ، خراب الإقتصاد .. إلخ ..
هل نخدع أنفسنا أحياناً ؟ ...
الثابت ان البلطجة ليست وافداً جديداً ، ويكفي مراجعة روايات الأديب العالمي / نجيب محفوظ لنعرف أنها جزء من التراث الشعبي ، ربما الخلاف في الدرجة وليس النوع ، بلطجي اليوم يختلف عن بلطجي الأمس ، ولكن البلطجة موجودة دائماً لم تنقطع .. أخلاق الناس لم تتغير ، وربما تكمن المشكلة هنا ، لأنه كان من المأمول أن تتأثر تلك الأخلاق إيجابياً بتطورات مصر الثورية ..
إنعدام الأمن أيضاً يحتاج لإعادة قراءة ، فهل ما كان قبل ٢٥ يناير يعتبر إستتباباً للأمن ؟ .. الحقيقة أن أمن الوطن والمواطن بمفهومه الواسع لا يتحقق إلا إذا توفر العدل ، والعدل لا يعني فقط إستواء تطبيق القانون علي الكافة ، وإنما إستواء توزيع الثروة دون التعدي علي الملكية الخاصة أو إهمال الإحتياجات الضرورية لكل المواطنين وأخصها الرعاية الصحية والتعليم وفرص العمل ، العدل ينفي أيضاً أي شبهة للتمييز ، ومن العدل كذلك أن يشعر كل مواطن بالأمل في غد أفضل ..
أن ما يشكو منه البعض الآن ليس نتيجة للثورة ، فهو ليس إلا تغير في الدرجة وليس النوع كما ذكرت ، وربما السر الخفي للشكوي هو التوقع المبالغ فيه حول نتائج هذه الثورة ، فلقد سري وهم جميل – مشروع – بأن كل الآمال الشخصية والعامة قد أصبحت في متناول اليد ، وأن ما بعد 25 يناير سوف يختلف جذرياً عن ما قبله ، حيث سيجد كل مواطن رغيف الخبز النظيف والرخيص ، وسريراً في المستشفي ، ودواء ، وفرصة عمل ، ومرتب مجز و .. و ... وأن فريقنا القومي لكرة القدم سوف ينتصر في كل مباراياته ...
أغفل البعض أن مصر مثل الطود الشامخ الذي يواجه العواصف في عباب المحيط ، إذا أراد أن يغير الإتجاه فلابد أن يعيد الحسابات ويجهز البوصلة والملاحين المهرة ، وأن يتأهب الجميع للتغلب علي الدوار ، مع توطين أنفسهم علي الصبر حتي يمكن لهذا الطود أن يستدير وينفذ المناورة بسلام ... الخطورة هي أن يتقاطر الجميع إلي غرفة القيادة يتجاذبون الدفة ويتصارعون كل يريدها في اتجاه .. الخطورة أيضاً أن يتخيلوا أنه يمكن مواجهة العاصفة وتغيير الإتجاه بينما الجميع يتجادلون ويتشاجرون .. الأخطر هو أن يظن كل واحد أنه يمتلك جزء من السفينة ، ويتصور أنه حر في أن يثقب هذا الجزء ....
مصر لم تتغير بعد ويجب أن ندرك هذه الحقيقة لأن الله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم كل ما في الأمر أن ركاب السفينة تمردوا علي الملاح وسيطروا عليه .. إلا أن السفينة لا تزال في مهب الرياح .. فإما أن ندركها ، وإما ستغرق بنا جميعاً ...
اللهم بلغت ، اللهم فاشهد ...
(واحدة من صيحات التحذير في مقال نشرته في يونيو 2011 ( أي بعد أربعة أشهر من مغادرة مبارك ) .. وشأن عديد مقالاتي في الصحف المصرية المختلفة ، اختفت من الأرشيف ..)