إن العين لتدمع ، وإن القلب ليحزن ، وإني على فراقك لمحزون يا طيب القلب ، صديقي "سامح عبد العليم" صاحب الوجه الطفولي ، والابتسامة الدائمة التي لا تكاد تفارق وجهه ، تعرفت عليه بالصدفة أثناء مهمة عمل ، لكن بمجرد أن وقعت عيني عليه ، شعرت أني أعرفه منذ زمن بعيد ، وقد أثرى هو ذلك الشعور تأصيلًا بطيبته الحانية ، وعطائه الجارف بلا أي مقابل ، فلا أزايد إن قلت أني أعرفه منذ الآذل ، وإلا من أين أتى ذلك التوافق العاطفي والفكري بيننا في هذا الوقت القصير جدًا؟
إن هذه النوعية من البشر ، وهؤلاء المنجذبون إليك دون حديث ، لا تضيعهم ، وأمسك عليهم بالنواجز فهم قليلون إن صادفتهم ، ولا يجود بهم الزمان كثيرًا ، وللأسف صرت متأكدًا بل على يقين ، أن هؤلاء هم أبناء الموت ، فتجربتي مع "سامح" أخبرتني ذلك ، لم أشبع منك يا صديقي ، وباعدت بيننا المسافات جبرًا ، في اليوم التالي من لقاءنا ، قرر أن يعزمني في بيته ، وكان يقول لـ "محمد عطية" صديقنا الثالث : "عمك علي مننا وعلينا ، شبهنا يعني " ، فما كان مني أمام هذا التصميم والكرم إلا أن وافقت ، وزال تحفظي أمام ثراء ونقاء مشاعره التي غمرني بها طوال الطريق ، دخلت بيته ، وعرفني على زوجته الفاضلة ، وأبناءه اللطفاء الإناث قبل الذكور ، و أحاطوني بجو عائلي غريب لم أشعر به وأنا وسط عائلتي.
الكل على طبيعته ، دون تكلف أو ادعاء ، يا إلهي ما هذه النوعية من البشر ؟ ، أهؤلاء في زماننا ؟ أول زيارة لي و يعاملونني بكل ذلك الود والمحبة الخالصة ؟ ، يبدو أن الرجل طبع طبائعه على أهل بيته ، و أذكر أن السيدة زوجة "سامح" الفاضلة ، وهي بالمناسبة "مدرسة" طلبت مني طلب غريب ، لما علمت أثناء الحديث أني أهوى "صيد الأسماك" ، قالت : أريد صنارة ، قلت : على الرحب والسعة ، غدًا سيكون لكِ واحدة ، ونظرت إلى "سامح" وجدته يضحك بلا توقف ، قلت له : بتضحك على إيه يا عم ، فقالت هي : دعه يضحك براحته ، أنا هاعمل إللي في دماغي ، فأنا كنت أصطاد سمك قبل أن أتزوجه ، وكان أبي يعلمني ويقف بجواري ، فقال "سامح" : "عرفت أنا بضحك على إيه ؟ هاتلبخني جنبها يا عم علي وهانسيب شغلنا ومصالحنا ونقعد جنبها " ، قلت : لا بأس يا "سامح" طالما أنها تهوى ذلك ، الموضوع بسيط ، والترعة تبعد عن بيتكم بأمتار قليلة ، فقالت : والترعة بجوار أرضنا التي نزرعها ، قلت : طيب تمام فين المشكلة ؟ ما لكش حق يا "سامح" ، قال يا عم "علي" أنت هاتجيب الصنارة والموضوع بالنسبة لك خلص ، أما أنا فلسه هايبدأ عندي ، قلت : كيف ؟ ، قال : لسه هانشوف بقه هانصطاد بأي نوع من الطعم ، قلت : بسيطة "الغلة" " القمح" شغالة كويس اليومين دول ، قال : تمام هانجيب "الغلة" ونشوف بتتعمل إزاي ؟ أقولك إنتي تقعدي تصطادي وأنا هامشي وراكي بشنطة فيها "الغلة" وعدة الصيد وكرسيين واحد لي والآخر لكي ، عرفت يا "عم علي" أنا بضحك على إيه ؟ فضحكنا جميعًا .
في اليوم التالي أحضرت معي عودًا من أعواد الصيد الخاص بي ، ولن أحدثكم عن مدى ارتباط الصياد المحترف مثلي بعدته ، فلكل عود معي ذكريات ، ومن الصعوبة التفريط في العدة بسهولة ، لكن كل يهون أمام عيون "سامح" الصافية ، مررت عليه بعد أن فرغت من عملي واتصلت به فنزل ليقابلني ، أعطيته العود ، وشرحت له كيف يعمل ، ولمح بجواري في السيارة شنطة صغيرة ، قال : ماذا بها ؟ قلت : ده يا سيدي "برفان" إنضحك علي فيه ، قال : كيف ؟ قلت : ذهبت لمحل عطور ، قلت له أريد تركيبه على ذوقك ، فقال : طلبك عندي يا بيه ، فيه تركيبة أنا اخترعتها سوقها ماشي والطلب عليها زايد ، قلت : تمام ، فلما فرغ منها ، ورش على يدي بعضًا منها ، قلت على الفور : لا أحب هذه الرائحة.
هي ذكرتني بخالي "عاطف" ذلك الرجل غليظ الوجه والقلب ، تخين الصوت ، فقد كان يضع نفس الرائحة لا يغيرها ، وكان يمر على بيتنا القديم أثناء سفر والدي من الحين للآخر ، وكل مرة يسأل : العيال عاملين معاكي إيه ؟ حد فيهم مضايقك ؟ فتشتكي أمي شكوة خفيفة مثل "علي" أحيانًا لا يسمع كلامي ، فيثور الرجل ثورة غير مبررة ، ويهددني ويتوعدني بصوته الأجش المخيف ، ويضربني كل مرة ضربات موجعة لطفل صغير مثلي ، فكان كلما أتى ، أشعر وكأني "فأر" صغير ، أتاه قط سمين ليعاقبه ، فتلتصق قدماي في الأرض ، وأنا أتلقى ضربات لا أعلم لها سبب واضح ، وذات مرة استجمعت قواي ، ونويت التمرد ، وفلت من تحت يديه ، وارتديت ثوب الشجاعة ، وتملك مني الكبر أكثر ، فشتمته ، وقلت أيضًا وأنا مغاضب : أنت مالكش ضرب عليا يا ابن الكلب ، أنت أصلًا مش خالي ، ولا يمكن تكون خال ، هو فيه خال بيضرب كده ، أطلق هذا الكلام في الهواء الطلق ، ويسمعني القاصي والداني ، فتحرج الرجل وهو يسمع شتيمته على الملأ وتوارى عن ناظري ، ومشى بعيدًا.
ورجعت أنا إلى أمي منتصرًا ، كأني فتحت "عكا" ، أضحك ضحكة الكفار ، وأنا أقول لها : خلي أخوكي ينفعك ، أديني هزأته ، وقليت منه أدام الناس ، ومعدش جاي تاني ، أمي تشير لي على شيء خلفي لا أفهمه ! ، أمي تريد أن تقول لي : إجري ، لكني أشعر بالنشوة والنصر على ذلك الغليظ ، وبعد أن انتهيت ، نظرت خلفي فإذا به يقفشني من قفاي ، بعدها لم أتذكر شيئًا مما حدث ، سوى أني ظللت يومين ملازمًا للفراش ، ومن يومها وأنا أكره تلك الرائحة ، ضحك "سامح" ضحكًا غريبًا عجيبًا على تلك الواقعة ، حتى كاد يجتمع حولنا الناس ، ونجحت في اسكاته بصعوبة ، حتى قال وهو مازال يضحك : عدي عليا بكره وأنت راجع من الشغل ، قلت : ماشي .
في اليوم التالي مررت عليه ، فإذا بيده زجاجة "برفان" جديدة وكبيرة ، قال : جرب دي كده ، فشممتها ، وقلت : كيف عرفت "برڤاني" المفضل ، فضحك وقال : هذه أسرار يا "عم علي" .
لما علمت بالمصادفة برحيل "سامح" ، اتصلت بصديقنا المشترك "محمد عطية" سألته : ماذا حدث لسامح يا محمد ؟ ، كيف مات ؟ ، قال وهو يبكي : ذهبت زوجته إلى العمل ، وذهب أبناءه لمدارسهم ، وعلى ما يبدو تركوا "موتور" المياه مفتوحًا ، فاتصلت زوجة أخو "سامح" في الدور الأرضي بالأستاذة "شيماء" زوجة "سامح" وقالت : "موتور" المياه مفتوح ، فقالت لها : غريبة "سامح" فوق تركناه نائمًا ، إصعدي وأغلقي "الموتور" فالباب مفتوحًا ، صعدت زوجة أخو "سامح" وأغلقت "الموتور" ، لكن لفت نظرها بقايا "ترجيع" على الحوض ، وعلى السجادة في الصالة ، فقادها فضولها إلى غرفة نوم "سامح" ، فإذا به ينام على سريره نصف مغطى ، لكنه لا يرد عليها.
اقتربت أكثر ، فهزته ، فإذا به قد فارق الحياة، فارق صاحب الضحكة المجللة، فارق صاحب القلب الطيب، فارق أسرع من خطف قلبي، وملك وجداني ببراءة وعفوية، فارق وهو صائم ، مصلي الفجر حاضر بالمسجد وفقًا لرواية "محمد" ، تقبلك الله يا "سامح" ، وسامحك على الحزن الذي طبعته في قلبي ، ولا أظنه يسير أو هين ، لا أدري لماذا تخيلت اللحظات الأخيرة في حياة "سامح" وفقًا لرواية "محمد عطية" ، "سامح" أيقن أنه سيموت ، رأى أمام عينه ملك الموت ، فاستأذنه أن يقبض روحه على سريره ، فغالبًا "سامح" هو من فتح "الموتور" ، لكن الموت لم يمهله غلقه ، فلما رأى شبح ملك الموت ، هرول إلى سريره ، بدليل تلك الترجيعات على سجادة الصالة ، وقد كان ، شكرًا لملك الموت الذي سمح له أن يذهب لسريره بل ويستر نصفه الأسفل بالغطاء .
هنا فكرت في نفسي ، ولا أحد يسألني لماذا ، فأنا يا "سامح" أسكن هنا في بلاد غريبة وبين أوناس غرباء عني ، في شقة دور أرضي ، أغلق بابها جيدًا بالكالون وترباس حديدي ، خوفًا وخشية من السرقة ، أنا يا "سامح" لست مثلك ، نعم يا حبيبي أصوم ، لكني غير منتظم في الصلاة ، ولا أصلي كثيرًا مثلك حاضرًا في المسجد ، يا "سامح" لو حدث لي مثل ما حدث لك ، وأنا يا "سامح" أكبرك سنًا ، أتدري يا "صديقي" العزيز ، لن يكتشف أحد موتي ، إلا بعد مدة ، وربما يتحلل ويتعفن جسدي ، وترشدهم عني رائحة "النتن" ، ليس معي أحد يا صديقي ، فأنا هنا وحيد بائس ، لو حدث لي ما حدث معك ، ستكون نهايتي درامية ، ولن أتحمل رائحة جسدي ، ولن تجدي رائحة برفاني المفضل ، ولا حتى رائحة برفان خالي "عاطف" نفعًا ، كم أنتِ حقيرة أيها الدنيا ، وما أهون أرواحنا ، وما أنتن أجسادنا ، أنا يا صديقي العزيز سأخالفك هذه المرة ، ولن أتمنى مثلك ولن أستجدي من ملك الموت يقبض روحي على فراشي ، أنا أتمنى أن أموت واقفًا ، وأنا أشرح للتلاميذ في الفصل ، أو وأنا أسير في الشارع بين الناس ، أو وأنا أحتسي قهوتي على المقهى ، فأنا يا صديقي العزيز لا أحب رائحة النتن .