حينما قالها السابق أو المعزول أو البائد فكلها وأكثر تتطابق عليه ، إنه "حسني مبارك" لما قال : أن هذا الشعب غير مستعد الآن للديمقراطية ، ورددها من بعده صبيانه وأقنانه ، وتلك المقولة العجيبة لا نراها إلا باطلًا يراد بها باطلًا أبطل منه.
إن كان هذا صحيحًا ؟ فلماذا كنت يا هذا تستخدم آليات الديمقراطية من استفتاءات وانتخابات وغيرها لتجدد البيعة لنفسك كل ست سنوات، دعك من هذا، إن الإنسان البدائي عرف الديمقراطية وشرع لها القوانين الملزمة، فهي فطرة فطرنا الله عليها يا أجهل خلق الله.
أيما جماعة وجدت في مكان ما، وضعت لنفسها قوانين ملزمة لأفرادها وحددت شكل ونظام الحكم بغض النظر عن طرقه وأساليبه، فهم أدرى بشئون دنياهم أو عالمهم، وألزموا أنفسهم بها، فتلك هي الديمقراطية الأزلية ، التي أساسها التراضي والتوافق بين الجميع، فالجميع شركاء، و كل له دور محدد منوط به ، ومن يقصر يحاسب ، ومن يجيد يكافئ.
تلك صبغة بشرية أصيلة ، انحرف بها المنحرفون إلى اتجاهين لا ثالث لهما : إما قوة السلاح ، وإما قوة الدين وسطوة العقيدة ، ولا مانع من المزج بينهما إن سنحت أو قل سمحت الظروف بذلك وكانت مواتية، وسبحان من أعز وأذل، واللهم شماتة كاملة في كل من سولت أو تسول له نفسه خداع أو تضليل هذا الشعب البائس، الباحث عن هويته بين شقي رحى ؛ إما حكم العسكر أو حكم تجار الدين.
أما الأول فنعترض كل الاعتراض عليه، لا من باب عدم الصلاحية وفقط، وإنما من أبواب كثيرة ليس هدفي رصدها أو إحصائها، وربما طفت رغمًا فوق سطح الحديث لهشاشتها وقلة كثافتها بل وعدم رصانتها، و أما الثاني فلا نقصد به الدين كعقيدة أو أحكام أصولية حاشا لله، فنحن أقرب ما نكون تمسكًا به، بل ودفاعًا عن صحيحة حتى الاستماتة دونه.
إنما نقصد به هؤلاء الموتورون الذين يختبئون تحت عباءته وعيونهم على سدة الحكم و دهاليز التحكم و السيطرة باسمه، وهم أبعد ما يكون عن روحه وفهمه الصحيح ، فهم لا يرون منه غير القشور، ولا يؤمنون منه إلا بالوصول لكرسي الحكم، ومفاتيح خزائن بيوت المال، وبعدها يحكمون بالحق الإلهي الذي طوعوه ليصادف هواهم، ها نحن بين شقي رحى منذ نشأة حضارتنا.
نعم أقول نشأة حضارتنا عن عمد وقصد، فقد تنبه الفرعون الحاكم منذ بداية حكم الأسرات إلى تلك الطبيعة الفريدة الغريبة للمصريين ، وأقصد التصاقهم الغريب وارتباطهم بفكرة الدين حتى في أبسط أمورهم الحياتية، فنصب نفسه إله قبل أن ينصب نفسه حاكمًا، وهكذا فقد جمع بين الحسنيين حسب ظنه، فاستقرت له الأمور ، واستتبت له الأوضاع لمئات بل وآلاف السنين.
فمن ذا الذي يستطيع أو يجرؤ على مخالفة الإله ومن ثم مخالفة الحاكم ، هكذا ترسخ في الوجدان المصري فكرة تأليه الحاكم، أو تحكيم الإله، وكل الذين تعاقبوا على حكم مصر استغلوا، بل ولعبوا على ذلك الوتر الحساس لدى المصريين، حتى بعد إنتهاء حقبة الفراعنة الأجداد، حتى هؤلاء الغرباء اللقطاء الذين تقلدوا حكمنا كانوا حريصون كل الحرص على إلصاق الدين بهم أو إلتصاقهم هم بالدين، وما نابليون عنا ببعيد، والذي كان يبدأ خطاباته للشعب بذكر الله، والثناء على رسوله الكريم (صلى الله عليه وسلم) ويشارك في الاحتفالاتالدينية بتسبيل العين، والتسهد بل والتشهد أحيانًا.
وها هو فاروق الملك في بداية عهده، يطل على شعبه بنصف إغفاءة من عيناه، للايعاذ بالتقى والورع والصلاح الديني، وما نراها إلى دروشة محسوبه ومخطط لها، ثم مرحى مرحى بمشايخ السلطان أو الملك الجديد الشاب الذين قدحوا زناد جهدهم في إثبات نسب الرجل للرسول محمد عليه الصلاة والسلام، ومحمد منهم برئ.
وأنا أتعجب كل العجب ، متسائلًا بلسان حال العقلاء ، أو قل بلسان حال مصري صميم : "إيه إللي جاب القلعة جنب البحر ؟" ، فجد فاروق من " ألبانيا"، ومحمد صلى الله عليه وسلم من "مكة" ناهيك عن الفاصل المكاني بين الاثنين ، ماذا وكيف سنرقع الفاصل الزمني ؟ يالها من "مسخرة" و كوميديا هزلية ، ثم يبدأ عصر انفصال الفريقين وبالتحديد منذ العام ١٩٢٩ م حينما أعلن "البنا" تأسيس جماعته ، ولاحظ أنه سماها جماعة وليس حزبًا، فالرجل على ما يبدو غير طامع في الحكم، ولا متخطيه لأستاذية العالم لا سمح الله، وإنما يريد الإصلاح ما استطاع إليه سبيلًا، فهي جماعة دعوية تدعو إلى إصلاح وتهذيب المجتمع، وعودته بالحسنى و الموعظة الحسنة إلى صحيح الدين.
لا تسألني أيها القارئ العزيز، كيف تغيرت الأحوال، أو تحولت المتغيرات، ولا كيف تبدلت الأهداف، أو تهدفت البدائل، وأصبح للجماعة نفسها "جناح عسكري" وأصبح لها أهداف سلطوية، فأنت قد عرفت القاعدة ، لن يصل للحكم في مصر إلا من لبس ثوب الدين، حتى لو كان داعية للدين.
أراك يا قارئي العزيز تضمضم، بل وتستغرب من التعبيرين السابقين ، فمن البديهي أن يلبس داعية أو رجل الدين ثوب الدين، أقول لك هدئ من روعك ، فشتان بين من يتسربل ثوب الدين، ومن يدعو مخلصًا لصحيح وروح الدين، فالأول طالب "دنيا" و "حكم" والثاني يطلب "رضا الله" و "الآخرة"
بين شد وجذب، صمدت الحركة المدنية في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن المنصرم ، وكان لها صولات وجولات مع ذاك المد المتطرف الوليد ، وكللت انتصارتها و وصلت لذروة مجدها بذلك الدستور العظيم الوافي الكافي ، الجامع لجميع أحلام وتطلعات الأمة "دستور ١٩٣٣ م" والذي رسخ لمفهوم المواطنة والحريات و تطلعات الشعب نحو الخلاص من الماضي "المخزي" - وتستطيع حذف النقطة من على حرف "الزاي" إن شئت - ، فهاهو يؤصل للحق في الحرية ويضع مبادئ وأصول للحكم ونظامه ، بمشاركة أبناء الشعب .
وليس غريب أن تحتضن جماعات الظلام "قوة" كانت ناشئة ، تتحسس الطريق ، وتبحث لها عن مكان ، وكان أقصى طموحها في البداية هي تحسين أوضاعها ، والانفراد ببعض الميزات ، كانت تلك القوة هي "العسكر" في مهدها ، وهذا ما يفسر انضمام أشهر الضباط الأحرار لجماعة الإخوان المسلمين، وذلك لإحساسهم بالضعف والتشرذم من ناحية ، ومن الناحية الأخرى رغبتهم في الوصول لمقاعد الحكم والسيطرة، نستطيع القول إذن أن "ذئبًا" ربى في حجره "ضبعًا" وانقلب الجميع على الجميع، وكسر الجميع عظام الجميع.
الخاسر الأكبر هو هذا الشعب المسكين، الذي لم يفكر أحدًا من الطرفين في رغباته أو مصالحه ، فها هو فريق العسكر يروج باطلًا لفكرة أن "مصر" لا يقدر على حكمها إلا "عسكري" ، وها هو الفريق الثاني يروج لفكرة "الحاكمية لله" وكأن الله سينزل من عليائه ليتولى بنفسه حكم "مصر" دونًا عن بلاد العالم، أيها الضالون المضللون، أوليست العبرة بالخواتيم، ها أنتم تتنازعون الحكم فيما بينكم على مدار نيف وسبعين عامًا، ماذا قدمتم لنا؟ ماذا جنينا نحن من حكمكم غير الخراب والتجهيل والتعجيز والتحقير وإهدار الموارد والمقدرات، أما آن الأوان أن يعود العسكر إلى ثكناتهم، ويعود تجار الدين إلى مخابئهم.
اتركوا لهذا الشعب البائس فرصة آخيرة لأن يحكم نفسه بنفسه، وأن يقرر مصيره، ويشرع في استعادة هيبته ببناء تنمية حقيقية، فلم نعد نحتمل تغول كيانات بعينها على أرزاقنا ومقدراتنا ، فقد أصبحتم عبئًا علينا، أصبحتم دولة داخل دولتنا، ويجب وآن الأوان لتفكيك لغمكم بحذر حتى لا ينفجر في وجه مصر الأصيل العظيم، أما الطرف الثاني فلن ينزل الله من عليائه ليتفرغ لحكم مصر، فاهدأوا جميعًا و ساعدونا بجدية لإنقاذ ما تبقى، و وضع مصر على طريقها الصحيح والذي على أحد جانبيه الحرية والديمقراطية، وعلى جانبه الآخر التنمية الشاملة .
هذا نداء أخير، وبيان للناس، قبل أن تقع الواقعة، ويحدث مالا نحبه أو نحبذه، لكننا نراه يقترب من بعيد، نستطيع في تلك اللحظة الفارقة إيقاف الخطر القادم، وإن تأخرنا أكثر من ذلك فالخراب والضياع والتيه قادم لا محالة .