زكريا صبح يكتب : إريال لكل مواطن


مثلما يدخل أحدنا المسرح، فلا يستطيع مغادرته قبل انتهاء العرض، ستجد نفسك أمام هذه المسرحية المكتوبة، جالسًا لا تستطيع مفارقتها قبل الانتهاء من قراءتها، أنت لست بحاجة إلى الذهاب إلى المسرح لمشاهدة العمل، بعد أن استطاع الكاتب تشييد مسرحا كامل المعالم، وأجلسك برفق في مقعد أمامي، لترى وتسمع عن قرب كيف يحرك أبطال عمله، كأنه مايسترو يتابع مجموعة عازفيه على خشبة المسرح. 

منذ البداية أراد لك الشفافية والوضوح، وابتعد عن الإثارة والتشويق، فأعلن في صراحة إنك مُقبل على كوميديا سوداء. 

تمهيد نفسي لقارئ العمل، حتى يكون مؤهلًا لما سيكون من أحداث الرواية، ثم تمهيد آخر بالإشارة إلى تصميم المسرح وكيف إنه حجرة رئيس الوزراء في الإمبراطورية في المسرح الذي جعله الكاتب على شكل هرم مُدرج، وربما تكون هذه هي الإشارة الأولى التي ينبغي أن ننتبه لها. لماذا الكاتب شكَّل الهرم؟ وعلام يدل أو إلى ما يشير؟ وإلى أي بلاد الله يرمز؟

ثم اشترط عليك أن تتخيل أن اللون الأصفر، هو اللون السائد على خشبة المسرح، وربما كانت هذه هي الإشارة الثانية التي يلفتنا الكاتب لها، ما هي دلالة اللون الأصفر؟ هل هي إحالة إلى التصحر والجفاف؟ هل هو رمز دال على طبيعة حكم الإمبراطورية الذي يتخذ من اللون الأصفر زيًا رسميًا لحُكامه؟ هل هو دلالة على وطن صحراوي تقع فيه أحداث المسرحية؟ 

أسئلة شتى يطرحها الكاتب بواسطة هذه الإحالات. 

ثم يضع اتفاقُا ضمنيًا أن الفوضى هي النظام السائد، وهو اتفاق له دلالة أيضًا نستطيع التعبير عنه في صيغة سؤال يقول: هل يمكن للفوضى أن تصير نظاما يعتاده الناس، حتى يُخيل إليهم أن الفوضى هي النظام وأنها القاعدة وإن الاستثناء هو النظام؟

ما الذي يهدف إليه الكاتب من لفتة كتلك؟ إلى أي بلد يود أن يشير الكاتب بطريق غير مباشر؟

بمجرد أن تأخذ مقعدك من المسرح؛ ستجد أن الإضاءة خافتة تكاد تقترب من الظلام وإن الإضاءة ليست سوى النور الخافت الصادر من شاشات التليفزيون التي تشغل حيزًا كبيرًا من المسرح، وإن الإيقاع الموسيقى خافت هادئ.

كل هذه الإجراءات ستضفي جوًا من الهدوء والرتابة والبطء الشديد، ولعل ذلك مقصود قصدًا مباشرًا، عندما تربطه باسم الإمبراطورية التي يحدثنا عنها الكاتب، إمبراطورية السلاحف الذهبية العظمى، هل تصورت السلاحف وحركتها التي تكاد لا نشعر بها، ألم تؤهلك كل الإجراءات السابقة وتمنحك إحساسا بالبطء؟ 

بعد أن تفرغ من قراءة العمل ربما قفز إلى ذهنك سؤال -وما أكثر الأسئلة التي ستقفز إلى عقلك في أثناء القراءة- سيقفز رأسك سؤال مؤداه، لماذا كتب الكاتب هذا العمل؟ 

وأظن أن إجابة هذا السؤال ستكون هي المدخل لهذا العمل من حيث الفكرة، والرمز والهدف. 

لقد نقلنا الكاتب إلى إمبراطورية بما لها من اتساع رقعتها، وقدرتها على السيطرة على ممالك صغيرة، عالم الإمبراطوريات ليس عالما سهلًا الدخول إليه، يحدثنا الكاتب عن هذه الإمبراطورية وكيف تسير الأمور فيها، وكيف تدار وأي دستور يحكمها، وأي قوانين تطبقها، ولأن الإمبراطورية كبيرة ومتسعة، ولأنها أيضًا تضرب بجذورها في أعماق الزمن، ولأنها ذات قيادات متعاقبة عبر هذا الزمن؛ لم يكن أمام الكاتب إلا اختيار موقف يبدو بسيطا للغاية، يكشف بواسطته آليات العمل داخل هذه الإمبراطورية. مجرد رحلة ينوي الإمبراطور القيام بها، هل في ذلك ما يدعو لكتابة مسرحية كاملة؟ 

نعم، كان فيه الكفاية لكتابة المسرحية وتحليل فلسفة الحكم، والنظر إلى الدستور والقوانين ونظام الحكم ودور كل مسؤول فيها. رحلة سيقوم بها الإمبراطور الذي لا نعرف له اسما على الحقيقة، وأيضًا لا يعرف المسؤولون في الإمبراطورية اسمه على الحقيقة، ولا في أي مكان يعيش! ولا في أي القصور يقيم! هل استدعى ذلك في رأسك شخصا ما، حاكما ما؟

لا تفرط في إسقاط الرمز على الواقع، لأن الرمز يصلح لأن يكون مناسبا ودالًا على أشخاص عديدة وحكام كثيرة. يقرر الحاكم القيام بالرحلة، فيخبر عن طريق كبير الياوران رئيس وزرائه الذي لا يكاد يفيق من نومه، لكنه بدأ في تنفيذ الأمر، وأول ما فكر فيه هو تمهيد وتعبيد الطريق الواصلة بين قصر الحاكم ومكان الزيارة، وهنا تظهر قدرة الكاتب على حياكة جو الكوميديا السوداء، فنرى حجم التخبط والعبث من أجل إنجاز مهمة بهذه البساطة، ومن خلال التجهيز للرحلة سنعرف كيف تدار الإمبراطورية، فسادًا في فساد في فساد، ظلمات بعضها فوق بعض، وعبثًا ما بعده عبث، وخيانات نفسية وعقلية وجسدية، وقتل ودماء، كل ذلك سيدور على هامش التجهيز للرحلة المشؤومة.

رغبة الإمبراطور الذي لم نعرف من هو! ولا كيف كانت هيئته، لقد ظهرت صورته في بدء العرض بلا ملامح، وتغير اسمه من شيكو إلى زيكو إلى غيره عدة مرات، في إشارة من الكاتب إلى أن الإمبراطورية ممتدة، وطريقة الحكم لا تتغير بتغير الوجوه الحاكمة.

 ذرية بعضها من بعض، دسائس ومؤامرات في قصر رئيس الوزراء النائم دومًا، كل الوزراء تفشل في توفير طريقة آمنة لإتمام رحلة الإمبراطور من دون مخاطرة، إشارات كثيرة تستطيع تأويل رمزيتها بحيث يعتقد القارئ أن الكاتب يقصد بلدًا بعينه، وفي الحقيقة فإن المسرحية كلها ترمز إلى بلاد تتشابه في طريقة الحكم، التي تعتمد القوة والاستبداد والسلاح نظاما رئيسًا، 

أظنك تسأل في شغف: إلى أين كانت هذه الرحلة المهمة ولماذا؟ ولمن؟ 

أسئلة مشروعة سيكون في الإجابة عنها، تأكيد العبث وتجلي سوداوية الكوميديا.


إن إمبراطور مملكة السلاحف، قرر أن يزور أمه وأباه، حيث يرقدان في سلام أو في غير سلام، في واديِ مملكة العناكب الوحشية، وانظر معي إلى الدراما في أعلى صورها، وادي العناكب ليس إلا جزءًا صغيرًا من المملكة، لكنه وللأسف الشديد يؤمن بخرافات عفى عليها الزمن، مثل حرصه على الأشجار الخضراء وزراعتها، وحرصه على استخدام الأوراق والكتب. 

إنهم أشرار لم يؤمنوا بعد باللون الأصفر والأعمدة الحديدية، التي بذلت إمبراطورية السلاحف الجهد والعمر والمال، من أجل ترسيخ فكرة اللون الأصفر الممتد، ومحاربة اللون الأصفر المُهدد، والدفاع عن مشروع الأعمدة التي ترتفع فوقها الأطباق اللاقطة للإشارات التليفزيونية، مخاوف السلاحف من العناكب. وانظر إلى عبثية الصراع ورمزية اختيار القوتين المتصارعتين، السلاحف بما لها من قوة وحماية، والعناكب وما يوحى به اسمها من ضعف وزراية. 

وربما كانت صفحة رقم ١٠٥ تحمل لنا ملخص لهذا الصراع، حيث يقول الكاتب على لسان السكرتيرة: كل ما أستطيع قوله، هو إن سبب اعتقالهم يتعلق بتلك الفترة الحاسمة من تاريخ إمبراطورية السلاحف الذهبية العظمى، الفترة التي شهدت بداية الصراع بين الصحراء وبين الحديقة، بين البرج وبين الشجرة، بين الكتاب وبين شاشة التليفزيون. 

المسرحية بلا شك تموج في الرمز والإشارة، تخاطب عقولًا من مستويات شتى، فلست أظن أن قارئا مهما كانت درجة ثقافته لن يفهم ما يرمي إليه الكاتب. 

ونعود سريعا إلى السؤال الذي طرحته آنفا: لماذا كتب الكاتب هذا العمل؟

ربما لا أكون مُصادرًا على رأي القراء إذا قلت إن الكاتب أراد إيقاظ الناس من سُباتهم، أراد استنهاض الهمم لفهم ما يراد لهم، أراد أن يعرض طريقة الحكم التعسفية التي تحظى بها معظم بلدان الوطن العربي، أراد أن يسخر من الحكام جميعا باختيار أسماء تثير الضحك والسخرية. الحاكم اسمه شيكو الحادي عشر، أو شيكو الثاني عشر، أو زيكو أو كيمو. أراد أن يسخر من الحكومات التنفيذية التي تخفق في أدنى المهام، وأقلها رئيس الوزراء النائم دائمًا، وأيًا كان اسمه شعيبان الصوام، أو رميضان الفطرنجي فإنهم جميعا فاشلون بامتياز، فاسدون بتفوق، لا يشغلهم إلا ملذاتهم الحسية من أي طريق كانت. 

الكاتب يدق ناقوس الخطر لإمبراطور مملكة السلاحف، أن كلما تفعله لتحصين نفسك وأسرتك وجوقتك الحاكمة خلف أسوار عالية، وكل محاولاتك في التلصص والتنصت على المحيطين بك خاصة من أهل وادي العناكب، وكل محاولاتك في الحفاظ على عرشك بالتخفي أو عدم الظهور، أو التحرك مثل الأشباح أو الاختفاء خلف جدران قصورك، كل هذه المحاولات قبض الريح فإن سكان وادي العناكب منتصرون لا محالة، ويوما ما ستفاجئ بهم يتسلقون أسوار قصرك بعد أن ينتصر إيمانهم بالأخضر على حساب الأصفر، وإيمانهم بالأشجار على حساب الأعمدة، وإيمانهم بالكتاب على حساب الشاشات. 


عشرة أيام هي المدة الزمنية لهذه المسرحية، لكن امتدت أحداثها، امتدت في ستة فصول، أو ستة مشاهد، وتخطت صفحاتها أربعين بعد المئة الثالثة. 

لن تستطيع مغادرة المسرح، أقصد الكتاب قبل انتهاء العرض، أقصد قبل اكتمال القراءة.

تعليقات