ثورة يوليو ليست أول التاريخ، ولا هي آخره، وجمال عبد الناصر ليس حاكم مصر الأوحد، قبله مئات الحكام، فراعين وسلاطين وولاة ومماليك وباشوات وملوك، وبعده ما يشاء الله من حكام في قابل الأيام،
لكن البعض يبدأ التاريخ عندهم من عبد الناصر، وينتهي عنده، هو عند هؤلاء أول الموبقات التاريخية، وهو آخرها، هو في نظرهم أول العسكر، وليس آخرهم، بل هو مؤسس حكمهم، وأبوهم الروحي،
لم يسبقه إلى حكم مصر عسكري قبله، يتسامحون مع أخطاء كل الحكام وخطاياهم، ولكن عبد الناصر في عقيدتهم هو الخطيئة الكبرى التي بلا غفران.
ثورة يوليو وحدها من بين وقائع التاريخ التي يُراد لها أن تكون مسئولة عن كل أخطاء تاريخ مصر، وعبد الناصر هو المسئول عن كل خطايا من جاءوا بعده، ولو كان هذا الذي جاء خلفًا له انقلب عليه وسار عكس خطه وعادى كل توجهاته، يريدون إلباس الثورة تهمة لم ترتكبها، ويجهدون أنفسهم من أجل تضخيم أخطائها حتى تقطع رأسها، وتشطب صفحتها من كتاب التاريخ.
هذا البعض من هواة العودة إلى التاريخ، تحكمهم ثلاثة أفكار رئيسية وتتحكم في قراءتهم لصفحات التاريخ:
أولها: فكرة قسمة التاريخ الحديث بين مرحلتين، الأولى تبدأ مع تولية محمد علي حكم مصر، وتنتهي بقيام ثورة يوليو وعزل آخر حكام العائلة العلوية في مصر، والثانية زمن ما بعد يوليو 1952.
الفكرة الثانية التي تحكم بعض هؤلاء تتلخص في اختصار “دولة يوليو: في مقولة “حكم العسكر”، وفي هذا متسعٌ لهم لكي يُهيلوا الكثير من الأتربة على قبر جمال عبد الناصر في محاولة لطمس أثره، يحيونه في الحاضر ليتمكنوا من إصدار قرار جديد بموته على أيديهم.
أما ثالثة الأفكار فهي تقوم على دمج الفترة ما بعد يوليو في سياق واحد، لا يفرق بين عهود دولة يوليو، وهو دمج يتيح لهم فرصة الانقضاض على عهد عبد الناصر أكثر مما يسمح لهم بمعارضة الحاضر، إلا معارضة خفيفة تحسب حسابات التكلفة، فتذهب إلى إدانة عهد عبد الناصر برمته، ويلبسون ثوب المعارضة للقائم الذي يعتبرونه امتدادًا طبيعيًا لعبد الناصر.
يجعلون من قدحهم الماضي القريب، طريقًا لذم الحاضر المقيم، يفتقدون شجاعة مواجهة الحاضر فيهيلون التراب على المقابر.
إن أخطر ما يواجه أي جماعة وطنية هو التعارك حول تاريخها، تنتصر كل مجموعة منها إلى سرديتها الخاصة للتاريخ العام للوطن، لكلٍ منهم روايتها لما تراه هي أنه صحيح التاريخ، فيتقطع بين تلك الفرق تاريخ الجماعة الوطنية، وتتفرق دماء الحقيقية بين القبائل المتناحرة.
النقطة التي ننطلق منها لقراءة التاريخ هي المشكلة.كلٌ يقرأ التاريخ من حيث يقف في الحاضر، من موقعه الأيديولوجي، ومن موقفه السياسي، ومن انحيازاته الآنية يصبغ كل ما جرى في الماضي بصبغة تلك الانحيازات، ويتخير منها ما يثبت صوابية موقعه، وسلامة موقفه.
الأمم المتقدمة تقرأ “تاريخها” انطلاقا منه إلى المستقبل، يقرأون التاريخ كفاعل مستقبلي وليس معول هدم، لا يتعاركون على الماضي، ولا يصفون حسابات الحاضر في لوي عنق الوقائع التاريخية، لهم سردية موحدة، الحاضر عندهم هو نقطة على مسارٍ تاريخيٍ طويل يتحرك إلى الأمام، حيث التاريخ هو مرآة السيارة التي يُلقون عبرها نظرة إلى الخلف لكي يحسنوا القيادة إلى الأمام.
من أسوأ ما تعرضنا له طوال قرنين -على الأقل- أننا ظللنا ندور في حلقة مفرغة، مربوطين إلى نفس الساقية، لا نتقدم إلى الأمام خطوات حتى نرجع إلى الخلف أميالاً، والأسوأ أننا لا نتعلم الدرس كل مرة.
ينصرف البعض منا إلى التاريخ، يذهب إليه ولا يعود منه إلا ليُحمل الحاضر ما لا يطيق من الماضي، يستغرقه الخلاف حول التاريخ حتى يستنزف قدرتنا على بناء المستقبل، والأسوأ أن هذا البعض -بموقفه من التاريخ- يقف حجر عثرة أمام كل تقدم حقيقي.
نغرق في معاركنا حول التاريخ هروبًا من مواجهة معارك الحاضر، بين كل فترة وأخرى نثير نقاشات مستعادة، وحوارات سقيمة حول أي مسألة في التاريخ الحديث تطرح على النقاش العام، فيتبارى المتناقشون في عداوة فترة تاريخية أمام دفاع آخرين عن نفس الفترة،
ينتقي كل منا فترته التي ينافح عنها، يرى فيها كل الميزات، ولا يرى فيها عيبًا كعين المحب عن كل عيب كليلة، ويصب بعضنا لعناته كلها على فترة بعينها، يراها أساس كل الأخطاء ومنبع كل الخطايا، يرى فيها كل العيوب، كعين السخط تٌبدي المساويا.
التاريخ ـ يا سادة ـ يُقرأ خدمة لصناعة المستقبل، لا نذهب إليه لتصفية حسابات مع الماضي، ولا نستدعيه لنستخدمه في عراكنا مع الحاضر.
مشكلة البعض أنهم مع كل ذكرى للثورة أو مناسبة تتعلق بقائدها دأبوا على تجديد الانتقام، وتنفيث الأحقاد، يحاولون في كل عام إعادة صلب عبد الناصر من جديد على مذابح التلفيق والافتراء والأحقاد الدفينة.
ولكن بدون جدوى.
تعليقات
إرسال تعليق
أترك تعليق