كل شيء مختلط ، أنفاس المدخنين مع غير المدخنين ، عرق المتعرقين مع غير المتعرقين ، أجساد الناس مختلطة، أحاديث الناس مختلطة، ومختلفة ، ضحكات الناس مختلطة بأحزانهم ، مشاعر وأحاسيس الناس مختلطة ، لا تستطيع التمييز بين مشاعر الفرح والحزن ، نعم بالداخل هناك بعض مشاعر الفرح، كفرحتي مثلًا لما علمت أني الليلة خارج .
آه يا رفقاء السجن آه واسمحوا لي أن أستبدل كلمة رفقاء تلك بمصطلح " زمايلي " جمع " زميلي " فهي الأدق تعبيرًا، كما وأني أصبحت أنتمي فكريًا وعاطفيًا حتى ولو لأيام لتلك الفئة المهمشة والساقطة عمدًا من ذاكرة الأمة ، إما لأن أصحابها لا يتحدثون ، أو لا يجيدون التعبير ووصف تجربتهم ، لذلك قررت اليوم أن أكون لسان حال كل عاجز عن التعبير ، كل مقهور ومذبوح من الألم ولا يقوى على البوح ، أنا اليوم لست مثقفًا ولا كاتبًا ولا منظرًا ولا مفكرًا ، أنا اليوم " زميلي " ، أنا بالطبع قرأت كثيرًا في " أدب السجون " التي لم تخلوا كثيرًا من الروايات من ذكر قصة هنا أو قصة هناك لأحدهم والتي تصف حياة السجن والسجناء وهكذا ، نعم أعرف وقرأت كثيرًا عن هذا ، وبالطبع لن أستنسخه أو أعيده ، فأنا عندي بالطبع الجديد والمختلف ، وعدتكم يا " زمايلي " بنقل معاناتكم وآلامكم ، وبعض من مشاكلكم، وها أنا ذا أنفذ وعدي لكم .
في مشهد رأسي من غرفة الحجز التي لا يتجاوز طولها ٤ أمتار وعرضها أقل قليلًا ، تحلق " زمايلي " الجدد حولي في محاولة متجددة مع كل دخيل جديد، ربما لمعرفة سبب مجيئة ، وربما يتشممون فيه رائحة الشارع ، لكن في حالتي لم يبادر أحدًا بسؤالي ، ورأيت كل واحد فيهم يحكي عن نفسه ، وسبب دخوله هذه المرة، فأصبح في رأسي سجلًا لحوالي ٢٢ حالة إنسانية ، منهم من اتهم بقتل زوجته ، ومنهم من طعن أباه بالسكين طعنات نافذة ، ومنهم من سرق ، ومن زور في أوراق رسمية ، ومن متهم بالإتجار في " البودرة " ومنهم من كان ينقب عن آثار ، ومن تنازع من أجل قطعة أرض ، وأنا مستمتع وأسمع بشغف.
الغريب أن لا أحد يعترف إعترافًا صريحًا بذنبه، الكل يدعي أنه لم يفعل شيء وأنه برئ ، إلى أن جاءت اللحظة التي أخشاها ، وسألني أحدهم : أنت جاي في إيه يا أستاذ ؟ فتحشرج صوتي ، وإمتلأ صدري بالكحة ، وإحمرت وجنتاي ، فقال أحدهم : هاتوا مايه للأستاذ ، وبينما أنا كذلك فتح باب الحجز ودخل نزيل جديد ، فحمدت الله ، أن أعفاني ولو مؤقتًا من الإجابة.
انشغلوا هم بالنزيل الجديد والذي أتى والدم يغرق ملابسه ، هي دي الرجالة ولا بلاش ، فزاد حزني أكتر ، أقول لهم إيه ؟ لما يسألوني ، أقولهم "متخانق مع مراتي" ، ما أحقرها من تهمة مقارنة بسجل التهم بجواري ، يالا العار ، أنا رجل لم أستطع التأقلم والمعايشة حتى داخل بيتي ، وسرعان ما إنزويت بعيدًا في أحد أركان الغرفة والذي تحصلت عليه بواسطة " شاويش الغرفة " وهو أحد السجناء القدامى، للتوضيح كنا ٤ فقط على ذمة الحجز ونظرًا لامتلاء واكتظاظ غرف السجن الأخرى فاستعانوا بغرفة الحجز لاستيعاب تلك الأعداد جلست القرفصاء ألتقط كل مايقع على مسامعي من ألفاظ جديدة في اللغة ، لم تألفها أذني ولم تسمعها من قبل.
مثلًا "المسجون ده مرزمن " أو " مشرز " أو " مسطر " كما سمعت لفظ " البرنيكة " و " النضارة " ولكل لفظ معنى وقصة وحكاية ، يطول شرحها كانت الثواني تمر علي طويلة كئيبة وحزينة ، أنا ذلك الطير الحر الذي يعشق الحرية والماء والهواء وصيد السمك ، أحجز في غرفة ضيقة ليس بها شباك ومعي ٢١ فرد ، يدوس المارة والسجانة على فرشتهم بأقدامهم وأحذيتهم ، والسجان بالداخل كملك متوج ، ورث الملك كابر عن كابر ، يأمر ويطاع ، يركل بقدمه رجل سبعيني غارق في نومه لمجرد أنه نام أم باب زنزانه يريد هو فتحها لتمرير كشف الطلبات،
كشف الطلبات هذا لها قصة أخرى ، فكل زنزانة تعد من ٣ إلى ٤ كشوف كل يوم بطالبتها الخارجية بما فيهم طبعا الحجز ، كل شيء متاح بالداخل ، إلا الحرية ، كأنك في سوبر ماركت أو مول كبير ، لكن اللافت أن الأسعار بالداخل أغلى من الخارج بقليل ، وبما إني كنت مراقب جيد أكاد أجزم أن إجمالي الكشوف اليومي يتخطى ١٠ آلاف جنيه لما يقارب من حوللي ١٥٠ أو ١٧٠ سجين ، يوجد كل شيء وأي شيء ، إلا كرامة الإنسان ، أنت يا عزيزي مهان مهان مهان إن ساقك حظك العاثر مثلي لذلك المكان ، صلوا واركعوا واسجدوا لنسائكم حتى ترضى عنكم ولا تغضبوهن ، فإن القانون معهن ، يجوز لأي إمرأة إتهام زوجها بالباطل والنيل منه ، وحبسه بل وإصدار أحكام غيابية كما حدث معي ، لأنها تطمع في بيته أو شقته أو سيارته ، أيا كان ملكه ، ويا حبذا لو ساعدها وعاونها مجموعة من الأفاقين معدومي الضمير والنخوة والرجولة والمفهومية من إخوانها أو أبناء عمومتها ، إنني حينما إخترت زوجة لم أدقق كثيرًا في بعض الأشياء ، ثم أكتشفت بعد مايزيد عن عشرين عامًا أن هذه الأشياء كانت مهمة جدا وما كان ينبغي أن أختار بدونها، ولحديث السجن بقية .
تعليقات
إرسال تعليق
أترك تعليق