يحيى حسين عبد الهادي يكتب : وقال رشدي سعيد .. ألاَ يعرف قيمة أنَّه أستاذ جامعة؟


كان ذلك في السنوات الأخيرة لحُكم مبارك .. دعاني الصديق الكبير د.جودة عبد الخالق لعشاءٍ (تاريخي) في شقته في المعادي .. وأغراني بأنه (تاريخي) ليس فقط لِتَمَيُّزِ الطعام الذي تُشرف عليه زوجته الصديقة د.كريمة كُرَيِّم .. ولكن أيضاً لتاريخية الأسماء التي ستحضره .. كان من بينهم عالِم مصر الكبير د.رشدي سعيد، الذي قرأتُ عنه وله .. لكنها كانت المرة الأولى التي أراه وجهاً لوجه .. ووجَدتُني دون ترددٍ أُغافله بقبلةٍ على يده (لم أُقَّبِلَ يَدَ أحدٍ بعد والدي قبل ذلك إلا الدكتور عبد الوهاب المسيري .. حاولتُ مع المستشار طارق البشري والدكتور عبد الجليل مصطفى ولَم يُمَكِناني بما آتاهما اللهُ من بَسطةٍ في العِلم والجسم).

ورشدي سعيد لمن لا يعلم، هو أستاذ الجيولوجيا المصري العالمي .. تخرج من كلية العلوم جامعة القاهرة سنة١٩٤١ بمرتبة الشرف الأولى، وبدأ التدريس بالكلية بعد عودته من بعثته العلمية بجامعة زيورخ بسويسرا .. ورشحه عميدها الدكتور علي مشرفة للحصول على الدكتوراه من جامعة هارفارد الأمريكية، فكان أول مصريٍ يحصل على الدكتوراة من هذه الجامعة العريقة .. تولَّى رئاسة المؤسسة المصرية للتعدين والأبحاث الجيولوجية في عصرها الذهبي .. لُقِّبَ براهب النيل وهو أول من حَذَّر بشدة من الموافقة على قبول دخول البنك الدولي كوسيطٍ في علاقة مصر بدول حوض النيل، فالبنك الدولي ينظر بعين الجغرافيا فقط التى لا ترى مصر إلا واحدةً من ٩ دولٍ يعتمد أكثرها على مصادر أخرى للمياه، فكيف نقبل باشتراكهم في رسم سياساتٍ وجوديةٍ لنا .. فالبنك ينظر بعين الجغرافيا، أما عين الاحتياج فلا ترى إلا مصر والسودان .. وهو ما فعلته الدولتان وأصَرَّتا عليه عند بناء السد العالي ..  وتُوِّج نضاله العلمي دفاعاً عن مصر ونِيلِها ومواردها بأن شملته قرارات الاعتقال التي صدرت في سبتمبر ١٩٨١، واضطر للهجرة خارج الوطن وبيع مكتبته العلمية ليستطيع الحياة في الولايات المتحدة بعد أن جاوز الستين .. وهناك بدأ رحلة البزوغ العالمي.

واظب د.رشدي سعيد بعد أن استقرت أوضاعه في أمريكا وبعد أن انتهت الحقبة الساداتية، على رحلة الشتاء السنوية إلى مصر التي تبدأ مع إجازة الكريسماس .. وكان اللقاء في إحداها وقد شارف على عامه التسعين.

حكى د.رشدي سعيد: (اعتدتُ على تلبية دعوة جامعة إقليميةٍ لإلقاء محاضرةٍ عامة كُلَّ عامٍ أثناء رحلتي الشتوية لمصر .. كان رئيس الجامعة يرحب بي في مكتبه ثم يصطحبني إلى القاعة المحتشدة بالأساتذة والطلبة .. في العام الماضي قُلتُ في محاضرتي ردَّاً على شابٍ يائسٍ "إن وجود بعض السلبيات في أداء الدولة ليس مبرراً لليأس من التعليم والتعلم وإنَّ الأمل باقٍ في الشباب لتحقيق ما لم نحققه" .. فإذا بأحد الأساتذة الجالسين في الصف الأول ينبري بحماسةٍ شديدةٍ أقرب إلى البهلوانية للدفاع عن الدولة وإنجازات أمانة السياسات برئاسة الأستاذ جمال مبارك .. فقلتُ له إنني لم أنكر الإنجازات أما السلبيات فتحدث في كل بلاد العالم .. فانفعل متحمساً قائلاً "إحنا غير العالم .. ما عندناش سلبيات وفُل الفُل" .. عَلِمتُ بعد المحاضرة أن سيادته أحد نواب رئيس الجامعة).

وأكمل د.رشدي سعيد: (هذا العام حدث شئٌ عجيب .. ذهبتُ لمكتب رئيس الجامعة كالمعتاد فوجدتُ نائبَه  "المتحمس البهلواني" قد حَلَّ مَحَلَّه .. تَخَّيَلوا!) .. كان الدكتور رشدي مندهشاً وكُنَّا مندهشين لاندهاشه، إذ كان هذا هو التطور الطبيعي للحاجة الساقعة وفقاً لإعلانات ذلك الزمان .. ثم أكمل: (طال انتظاري في مكتب رئيس الجامعة وهو منشغلٌ عنِّي بمكالماتٍ للاستعداد لحَدَثٍ جَلَلٍ، حتى تجاوزنا موعد بدء المحاضرة .. فاستأذنتُه أن أذهب للمحاضرة بصحبة أيٍّ من مرؤوسيه احتراماً للحضور، على أن يلحق بنا بعد أن ينهي أعماله .. فرفض بشدة وقال إن المحاضرة لن تبدأ إلا بحضور شخصيةٍ بالغة الأهمية .. وبعد وقتٍ طويلٍ انفتح باب الغرفة فإذا برئيس الجامعة يقفز متهللاً نحو الباب "الجامعة نورت بمعاليك .. أنا قلت المحاضرة مش حتبدأ إلا في حضور معاليك وبرضا معاليك" .. كان الضيف هو مدير الأمن .. كان الرجل ودوداً وحضر فعلاً جزءاً من المحاضرة .. وانصرف بعد أن اطمأن إلى أن موضوعها لا يخرج عن نطاق الصخور والزلازل.. وانصرف معه رئيس الجامعة ولَم يعد) .. سألتُ د.رشدي (ما العجيب فيما رويت؟) .. فأجاب غاضباً (تَرَّخُصُ الرجل أمام مدير الأمن .. لقد كان "حَرفياً" يهرول قفزاً .. ألاَ يعرف قيمة أنه أستاذ جامعة؟!) .. أشفقت على الدكتور رشدي .. هناك من يهرول لرتبٍ أقل كثيراً من مدير الأمن .. لعل ٣٠ عاماً في أمريكا أنْسَتْه واقعنا .. أو لعله لم يخرج بعد من عباءة على مشرفة وأمثاله من الأساتذة العظام.

بالتوازي مع ما رواه رشدي سعيد، كان هناك من يخوضون معارك على أرض الواقع متشبثين بكرامة ومكانة "أساتذة الجامعة" تحت راية حركةٍ أسموها (حركة ٩ مارس لاستقلال الجامعات) .. مستلهمين واقعة استقالة أحمد لطفي السيد رئيس جامعة القاهرة في نفس اليوم سنة ١٩٣٢، احتجاجاً على تدخل وزارة التعليم (لا الداخلية) في شؤون الجامعة وفصل الدكتور طه حسين من هيئة التدريس.

حددت الحركة هدفها منذ بدايتها في ٢٠٠٣ في (الحرية الأكاديمية ورفع مستوى التعليم والبحث العلمي واحترام الأساتذة والطلاب وتأكيد أهمية الديمقراطية داخل الجامعة) .. حققت الحركة نجاحاتٍ متتاليةً تكللت بالحصول على حكمٍ قضائيٍ بات بإخراج الحرس الجامعي من الجامعة سنة ٢٠١٠، فضلاً عن إقرار اختيار عمداء الكليات ورؤساء الجامعات بالانتخاب عقب ثورة يناير.

في ٤ نوفمبر ٢٠١٠ كان حرم جامعة عين شمس ساحةً لمعركةٍ بين مفهومين .. مفهوم رشدي سعيد ولطفي السيد من جهة، ومفهوم رئيس الجامعة الإقليمية المترخص من جهةٍ أخرى .. وقد روت أد.رضوى عاشور تفاصيل ما حدث في كتابها (أثقل من رضوى) .. ذهب عشرةٌ من أنبل الأساتذة (منهم رضوى نفسها، أ.د/ عبد الجليل مصطفى، أ.د/ مديحة دوس، وآخرون) لتوزيع صورةٍ من حكم المحكمة على الأساتذة والطلبة لتوعيتهم بمزاياه .. فإذا بمجموعةٍ من البلطجية المسلحين بالسِنَج والجنازير يحاصرونهم ويتحرشون بهم على مَرأَى ومَسمَعٍ من الأمن .. إلى هنا لا جديد .. فغزوات البلطجة إحدى علامات النهاية للنظم المستبدة في أيامها الأخيرة  .. الجديد كان بيانات وتصريحات رئيس الجامعة ووزير التعليم العالي التي وصفت وفد الأساتذة الأفاضل بأنهم (فئةٌ مندسة!) جاءوا لتحريض الطلاب وإثارتهم ودفعهم للتعدي على رجال الأمن، ولكن بعض الطلاب (الغيورين!) تَصَّدوا لهم ودافعوا عن وجود الحرس الجامعي ودوره الذي لا غنى عنه للحفاظ على أمن منشآت الجامعة! .. (وهي لغةٌ لم نعرفها إلا في بيانات وزارة الداخلية، كما عَقَّبَ يومها الكاتب الكبير فهمي هويدي).

كانت غزوة عين شمس نذير شؤمٍ على نظامٍ سقط بعدها بثلاثة شهور  .. لكن مع هبوب رياح الجمهورية الجديدة تم إلغاء معظم ما تحقق من مكاسب على طريق الاستقلال الأكاديمي .. وتَفَرَّقَ نبلاء ٩ مارس ما بين راحلٍ أو مرتحِلٍ أو معزولِ أو مُطارَدٍ أو معتقلٍ أو مُجَّنَبٍ .. وانفسح المجال لمن هم أقل كثيراً من النموذج الذي انزعج له د.رشدي سعيد .. ومات العبد الصالح رشدي سعيد (فعلاً ومجازا).

قبل تسعين عاماً اعتبر رئيسُ جامعة القاهرة تَدَّخُلَ وزير التعليم في شأنٍ من شؤونها ماسَّاً بكرامة الجامعة وكرامته كأستاذٍ، فاستقال، فاهتزت الدولة .. والآن يجلس على مقعد أحمد لطفي السيد مَنْ لا يجد أيَّ غضاضةٍ ولا يستشعر أيَّ إهانةٍ في أن يمارسَ عَمَلَه قائماً بالأعمال منذ ثلاث سنواتٍ دون صدور قرارٍ بتثبيته .. هل تَغَيَّرَ  معنى الكرامة؟ أم تَغَيَّرَ معنى الدولة؟ أم تَغَيَّر معنى أستاذ الجامعة؟!.

تعليقات