زكريا صبح يكتب : محدش فاهم حاجة


مش فاهم، مش قادر، مش عارف، هذه جمل ثلاث نكاد لا نسمع غيرها في الشارع المصري الآن، هذه الجمل ليست سوى ثلاث إجابات من ثلاث فئات مختلفة؛ أما الفئة الأولى فهي التي إن سألت أهلها بحكم أنهم من صفوة القوم أو ما نُطلِق عليهم "النخبة المثقفة"، إن سألتهم: هل لدى أحدكم تفسير لما يحدث؟ وإذا سألت أحدهم: كيف تفهم ما يجري في الواقع المصري؟ 

لن تجد إلا إجابة واحدة منه: "أنا مش فاهم إيه اللي بيحصل". ربما ستندهش من إجابته؛ لأنها صادرة عن المنوط به فهم الواقع وتفسيره، هب أنك سألت ذلك النخبوي عن أمر سياسي، مثلًا: 

ما آخر أخبار سد النهضة؟ 

هل صحيح ما يتردد بشأن احتجاز جزء من حصة مصر المائية؟ 

هل سيستقر سعر الصرف على وضعه أم سيتغير؟ 

هل نحن مقبلون على انتخابات برلمانية أو رئاسية في الفترة المقبلة؟ 

لماذا تحدث بعض التغيرات في القيادات؟ 

لماذا تُغيَّر أسماء بعض الشوارع والمؤسسات؟ 

لماذا نقاطع دولة، ولماذا نصل أخرى؟ 

كل هذه الأسئلة وغيرها لن تسمع لها سوى إجابة واحدة: "مش فاهم، وماحدش فاهم". 

وإذا ما سألت عامة الشعب الكادح، بدءًا من عمال التراحيل، وانتهاءً بالموظفين في أعلى الوظائف، مرورًا بكل العاملين والحِرفيين وأصحاب الأعمال الحرة، لو سألتهم أو سألت أحدهم: كيف تواجهون الحياة؟ كيف تعيشون؟ وإذا ما سألت أحدهم: كيف توازن بين دخلك ومصروفاتك؟ 

سيجيبك بعد أن يفتح فاهه، وتجحظ عيناه، ويلفه الصمت، حتى تكاد تظنه قد أصبح أبله، سيجيب بجملة من كلمتين: "مش قادر". 

كلمتان ثقيلتان على لسان الأزواج أمام زوجاتهم كلما طلبن منهم القيام بأعباء البيوت، لا يسمعن منهم سوى جملة: "مش قادر". 

كلمتان ثقيلتان على الأب الذي يعول أطفالًا يطلبون منه ما لا يستطيع تلبيته، أيُّ مذلة في صوت الأب وهو يقول لولده: "مش قادر"؟!

وأيُّ مذلة وهو يقف أمام السوبر ماركت ممسكًا بلستة طلبات بيته ناظرًا إليها في عجز وهو لا يستطيع تلبية هذه المطلوبات؟! لن تسمع منه وهو ينهر زوجته عبر الهاتف: "مش قادر".

ما من اثنين يتحدثان أحاديث جانبية إلا يتبادلان قول جملة: "خلاص مابقتش قادر".

لم تعد الجملة مقصورة على الفئات الكادحة، بل أصبحت رائجة بين أفراد الطبقة المتوسطة والطبقات العليا من تجار ورجال أعمال، فإذا كانت الطبقات العاملة يقول الفرد فيها: "مش قادر". لأنه لا يستطيع تدبير حياته؛ فإن الفرد من الطبقة الوسطى والعليا يقول: "مش قادر أدفع ضرايب وتأمينات وكهربا ومرتبات". 

أيُّ حزن ينتاب الإنسان عندما يسمع لأصحاب الجهد الكبير والسعي والحركة والنشاط وهم يجأرون بمر الشكوى قائلين: "مش قادرين"؟!

أما الطائفة الثالثة فإن إجاباتها دائمًا: "مش عارف" أو "مش عارفين". هذه تضم كل طبقات الشعب وفئاته عندما توجه لهم سؤالًا عن غدهم، ما من أحد يعرف ماذا سيحدث غدًا؟ إلى أين تسير البلاد؟ هل إلى طريق الحرية أم إلى مزيد من الاستبداد؟ 

هل إلى رخاء اقتصادي أم إلى ركود وتعثُّر؟ هل سيكون التعليم أفضل حالًا أم سيعود بنا القهقرى؟

هل ستتحسن لغة الخطاب الإعلامي أم لا؟

سل ما شئت لمَن شئت من أفراد وجماعات عن الوجهة السائرين إليها، لن نسمع إلا جملة: "ماحدش عارف حاجة!". 

إن وطنًا مثل مصر لا يصح أن يكون في هذا التيه، وإن شعبًا مثل الشعب المصري لا ينبغي له أن يكون في غيبوبة تامة، ولا تسمع في اجتماعاتك والصالونات الأدبية سوى هذا الثالوث المرعب، والمُعبِّر عن حالتنا النفسية والجسدية والمادية. 

لماذا لا يحدث إلا على أرض مصر التي كانت بوصلة الجميع؟!

تعليقات