يمكنك قياس نبض أى مجتمع عبر وسائل كثيرة.. أحدها فى زمننا هى مواقع "التواصل الاجتماعى" رغم أنها لا تكشف بدقة ما يصيب قلب المجتمع من أمراض.. ولأننى انشغلت فى يوم طويل بمتابعة ثلاثة انتخابات.. كانت الأكثر إثارة وأهمية فى "تركيا" لانتخاب رئيس جديد وأعضاء البرلمان, لذلك تابعها العالم من أقصاه إلى أقصاه.. وفى الخلفية كانت عينى على انتخابات برلمانية جديدة فى "تايلاند" وراقبتها عيون الدول الكبرى.. إضافة إلى انتخابات برلمانية ومحلية فى "موريتانيا" شغلت الشعب الموريتانى فقط!!
أخذتنى حالة من الدهشة والسعادة بما حدث فى "تركيا" لأنه سيكون له ما بعده فى "الشرق الأوسط" وكذلك فى عالمنا العربى.. فهناك حالة جديرة بالدراسة ومحاولة الفهم العميق, لأسباب كثيرة.. لكننى سأركز على قراءتها بعين الصحفى, لأتجنب تناولها بعين "خبراء الغبرة" عندنا الذين يفخرون بكونهم ناطقين بلغة "الاستراتيجية" التى لا يفهمها غيرهم!!
يجب أن نعترف بأن "تركيا" إنتصرت.. وأن "رجب طيب إردوغان" حقق فوزا هائلا, رغم أنه سيخوض جولة إعادة بعد أيام.. وضمن ما يجب أن أوضحه أننى كنت – ومازلت – أصفه بأنه "رجب طيب بهلوان" باعتباره سياسى شديد التفرد عند أنصاره وخصومه أيضا.. نجح فى أن يستمر ببلاده فى عضوية "حلف الأطلنطى", ونجح فى نسج علاقات متينة مع "روسيا" فى الوقت نفسه.. بقدر نجاحه فى اختلاق خصومات يجيد استثمارها, وتحقيق أقصى ربح لبلاده منها.. فضلا عن قدرته على فهم شعبه وإجادته مخاطبته فى أوقات القوة والضعف بالبراعة نفسها.. لذلك لا أتحرج من القول أنه خرج من الانتخابات الأخيرة "زعيما" سيذكره التاريخ, بقدر ما يذكر "كمال أتاتورك" رغم أن النهجين والمنهجين على طرفى نقيض!!
أبرز ما حققه "إردوغان" فى أن تقدم "تركيا" نموذجا تجاوز فى شكله ومضمونه, تلك الديمقراطية الغربية التى شقت المجتمع الأمريكى وقسمت المجتمع الفرنسى, كما جعلت المجتمع البريطانى فى مفترق طريق.. ويمكنك أن تمد الخط على استقامته فى العديد من الدول الغربية التى "شاخ" نموذجها الديمقراطى!!
ولعلى أذهب فى رؤيتى تلك إلى ملاحظات – عين الصحفى لأسباب:
أولها.. أن "تركيا" أصبحت الدولة الأولى فى العالم من حيث إقبال شعبها على الذهاب إلى صناديق الانتخاب بنسبة 89%.. كما أصبحت الدولة الوحيدة التى يمكن أن تشهد انتخابات, دون إصابة أحد مواطنيها "بخدش" رغم حالة الاستقطاب الحادة بين "إردوغان" وكل خصومه الذين اصطفوا فى خندق واحد.. وكان منتهى أملهم توجيه "الضربة القاضية" له شخصيا, ثم النيل من حزبه – العدالة والتنمية – الذى يحكم, ويواجه عواصف اقتصادية مذهلة.. كما يواجه عاصفة غربية – واشنطن والذين معها – وأقل ما يمكن وصفها به أنها "رهيبة" إضافة إلى تمنيات محيطه الإقليمى بأن ينكسر مع تجربته.. لأن "الإخوة الأعداء" يرون فيه وفى تجربته خطرا على حاضرهم ومستقبلهم!!
ثانيها.. أن "تركيا" فى ظل حكم "إردوغان" متهمة بتفشى الفساد فى جسدها.. لكن بقى الجسد نفسه قادرا على أن يتقدم صناعيا وزراعيا وتكنولوجيا.. كما أن الجسد نفسه يملك "قوات مسلحة" تلقى كل تقدير واحترام بعد أن تخارجت نهائيا من السياسة!! وأضف لذلك أن الجسد نفسه يتمتع بقدرة القضاء فيه, على إعلان نتيجة انتخابات لم تسمح للرئيس بالمرور من الجولة الأولى.. فى ظل وجود شرطة تحمى المجتمع وتحفظ للدولة أمنها واستقرارها.. كما أن الجسد التركى يتحمل معارضة ضخمة من حيث العدد, وشرسة بقدرتها على أن تتحرك عبر أحزابها الكثيرة.. وليست مبالغة إذا قلت أن الإعلام الذى يسيطر عليه, إمتلك قدرة وأدوات وإمكانات تسمح له بمواجهة خصومه فى الداخل والخارج.. دون تجاهل التحفظ على ترويضه لهذا الإعلام!!
ثالثها.. قدرة "إردوغان" على مواجهة الإرهاب – حسب وصفه – ببراعة "المستثمر" له.. فهو لا يستخدم الإرهاب كشماعة بعلق عليها الفشل!! وهذه القدرة جعلته يلعب بورقة "الدين" فاستخدمها بألوان مختلفة ومتباينة.. فهو "إسلامى" يمارس "العلمانية" ويجمع بينهما كما جمع بين "واشنطن" و"موسكو".. وجعل "جماعة الإخوان" تخدم مشروعه دون أن يخسر من علاقته معها مدا ومجزرا.. وظنى أن حكام "قطر" استفادوا منه تعلم هذا الدرس – وهذا هامش – وعلى الدرب نفسه يمضى حاكم "السعودية" القادم.. إذا جاء!!
رابعها.. أن تجربة "إردوغان" وهى مأزومة قادرة على أن تبدو متجددة وقوية.. بفضل نجاحه فى بناء تنظيم سياسى – العدالة والتنمية – تراكمت طبقاته على مدى عشرين عاما.. بمعنى أنه أصبح يملك "مخزنا" من القيادات, سمح له بتجاوز انقلاب عسكرى.. ثم سمح له بتجاوز انقلاب سياسى, عندما انشق عنه "داوود أوغلو" وكان يقود دفة الحزب والدبلوماسية.. وكذلك "على باباجان" الذى قامت على أكتافه "ماكينة الاقتصاد التركى" الجديدة, وكليهما أصبح معارضا شديد الضراوة وأصبحا ضمن خصومه الشرسين فى الانتخابات الأخيرة.. ولم يكابر "زعيم تركيا الجديد" عندما أدرك أن أهم رجاله – على يلدرم – لا يحظى بقبول جماهيرى عندما سقط فى معركة انتخابات بلدية "اسطنبول" رغم أنه كان رئيسا للوزراء ورئيسا للبرلمان.. وهذا جعله يسحبه للصفوف الخلفية, ويدفع آخرين يقدرون على التفاعل مع المجتمع.. وهى واحدة من قدرات "إردوغان" الذى أثبت أنه قادر على تدوير رجاله.. دون أن يخشى من خسارة الذين يمثلون عبئا عليه مهما كانت أوزانهم أو أحجامهم.. وقد ظهرت قيمة "مخزن الرجال" فى انتخابات البرلمان لأنهم حافظوا على أكثرية الحزب, والأغلبية بفضل تحالفاته التى تتغير حسب ظروف كل مرحلة!!
خامسها.. قدرة "إردوغان" الشخصية على توظيف ضعفه لكسب الرأى العام.. بقدر ما يملكه من قدرات على إعلان قوته واستخدامها فى الوقت المناسب.. ربما لأنه "بهلوان" يؤمن بأنه يكون حيثما تكون الجماهير كما كان يقول "أحمد الخواجة" نقيب المحامين الأسبق والذى غابت بعده شمس نقابة المحامين عندنا فى مصر!! وتجلى ذلك فى حملته الانتخابية التى بدا خلالها رجلا عجوزا.. طيبا.. منهكا.. فى مواجهة منافس أكبر منه سنا حاول أن يمارس اللعبة على الطريقة الأمريكية, بتقديم نفسه كشاب!! وظنى أنه نفذ نصائح "أمريكانى" يصعب تقبلها فى مجتمعات شرقية.. إسلامية.. لها خصائص تختلف عن الغرب الذى يعتقد بأن الصورة تصنع المعجزات.. بينما مجتمعاتنا تعتمد على قيمة الكلمة والحكمة!!
سادسها.. إستفاد "إردوغان" من حملات الغرب ضده.. بقدر ما خسر منافسه – كليشدار أوغلو – من هجومه على "روسيا" متناسيا أن حجم مصالح شعبه معها, يفوق بكثير علاقة بلاده الاستراتيجية – كما يتحدث خبراء الغبرة – مع "واشنطن والذين معها".. ولعل نتائج الانتخابات فى الخارج تكشف عمق رؤية "إردوغان" وسذاجة رؤية منافسه!!
وأخيرا.. يمكننى القول أن تجربة "إردوغان" كلها يمكن أن تتبخر فى الهواء, إذا لم يقدر على تقديم خليفة يستطيع أن يواصل مشواره خلال سنوات قليلة قادمة – وقد تكون شهورا – لأن خصوم "إردوغان" الذين أذهلهم ما فعله خلال الانتخابات الأخيرة.. سيقومون بكل تأكيد بمحاولة إجهاض هذه التجربة, للحفاظ على "الشرق الأوسط" الذى يحلمون به.. لا يكون فيه غير "إسرائيل" الديمقراطية حسب زعمهم.. إضافة إلى الحفاظ على عالم عربى لا يسمح حكامه بأن تقوم فيه ديمقراطية!!
أستطيع أن أرصد ما هو أكثر من ذلك ضمن ملاحظاتى على تجربة "تركيا" التى أسعدتنى.. وأملك المزيد مما أعتقده, فى تقييمها – سلبا وإيجابا – لكن طبيعة عمل الصحفى تختلف عن "الاستراتيجى" من هؤلاء "الأرزقية" الذين باعوا العلم والضمائر لكى ينافسوا "جامعى أعقاب السجائر".. الذين يمارسون العمل الإعلامى لمراكمة المال والثروة.. وهؤلاء تأخذنى بهم الشفقة من موقع الفقير إلى الله, لأنهم يمرحون بوظيفة "أراجوز" فى موالد انتهى زمنها!!
إحتجت لبعض الهدوء.. كنت قد تخلفت عن متابعة مواقع "التواصل الاجتماعى", وعدت لمراجعة ما يحدث على صفحاتها.. إكتشفت أن "عمليات الإشغال" مستمرة.. يأخذنا إليها "جاهل عصامى" يحدثنا عن وعى الشعب التركى وإقباله على التوصيت.. لأن هذا "الجاهل" لا يملك غير لوم وسب الشعب كما غيره من "الأراجوزات".. الذين راحوا يبشرون الأمة بأهمية ما يسمى "الحوار الوطنى" الذى لا يشغل غير حضور حفلاته!! بينما "الرأى العام" مشغول بما إعتبره "مؤامرة على البطاطس", لمجرد افتتاح مصنع جديد يقدم "بطاطس" نصف مقلية ومهروسة!! فهذا شعب ذاق مرارة تشغيل "مزرعة غليون" التى أشعلت أسعار السمك نارا.. كما ذاق مرارة "الطرق والكبارى" مع مرارة "حقل ظهر" الذى رفع أسعار الغاز بشكل مذهل.. وكلها تجارب تجعل شعبنا "لايص".. بينما الشعب التركى "هايص", حسب ما قدمه "سمير غانم" فى مسرحية شهيرة.. فاستحق أن يكون هناك محور باسمه!!
تعليقات
إرسال تعليق
أترك تعليق