المقال قديم قبل وفاة الأستاذ هيكل ولم ينشر في أي صحيفة أو موقع من قبل
معصوم مرزوق
لم أكن أعرف أن الكتاب كان قد ترجم لهذه اللغة ، لذلك اقتربت بهدوء من الشابة كي أسألها عن مكان شراء نسخة منه ، وما أن عرفت أنني مصري من بلد " هيكل " فوجئت بانفعالها وسرورها ، وقد علمت فيما بعد أنها باحثة من الأرجنتين وأنها قرأت تقريباً كل كتب محمد هيكل ( هكذا كانت تنطق أسمه ) ، وهي تعد دراسة عن الشرق الأوسط .
هكذا أمضيت مع " ليلي" الأرجنتينية يومين حافلين ما بين زيارات لمناطق سياحية ومتابعة لكرنفال السامبا الشهير ، وبين مناقشات جادة حول كتابات هيكل .
في الواقع أنني طيلة أربعة أعوام عشتها في قارة أمريكا اللاتينية ، لم أجد في مقابلاتي من يعرف عن مصر الحديثة إلا عن طريق كتابات الأستاذ ، ولا أنسي اليوم الذي كنت ألقي فيها محاضرة في الجامعة الكاثوليكية بمدينة كيتو في الإكوادور وكانت حول معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل ، وفوجئت أثناء المناقشة التي تلت المحاضرة أن أغلب الأسئلة كانت تدور حول خلاف هيكل مع السادات ، وآراء الأول في مسيرة السلام !! ..
تعرفت علي هيكل مبكراً جداً في حياتي حين كنت في الرابعة تقريباً ، حين كان جدي رحمه الله يستدعيني بعد الإفطار يوم الجمعة ويدربني علي القراءة بأن يدعي أن بصره لا يساعده علي قراءة مقال " بصراحة " للأستاذ ، وكنت أفرح جداً وأنا أجمع الحروف بصعوبة بينما جدي يبدي إعجابه ويشجعني .
منذ ذلك العمر المبكر أصبح يوم الجمعة مقترنا بموعدين هامين ، قراءة مقال هيكل في الصباح ، وصلاة الجمعة في الظهر ، بل أن ذلك المقال الشهير تحول تدريجياً إلي مادة لنقاش تستغرق أغلب أيام الأسبوع في محيط العائلة والأصدقاء ، ولم يكن غريباً أن تسمع أحدهم يقول بحماس : " هكذا قال هيكل .. " كي يؤكد وجهة نظره ..
في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي كانت مقالات هيكل إطلالة هامة لأبناء جيلي علي السياسة ، ورغم جفاف الحياة الحزبية ، وضيق أجهزة الأمن بالنشاط السياسي ، فأن تلك المقالات كانت تفتح لنا آفاق واسعة للعالم خارج حدود مصر .
كان أسلوب المقالات المميز شيقاً يجذب القارئ جذباً للقراءة والمتابعة حتي السطر الأخير ، حتي أولئك من غير المهتمين بالموضوعات السياسية ،كانوا يستمتعون بالأسلوب الأدبي المميز للأستاذ ، وحرصه علي تغليف المعلومات الجافة بألوان ذاتية من تجاربه الشخصية ولقاءاته مع شخصيات مختلفة ، بل كان يحرص أيضاً علي إلتقاط التفاصيل وزركشة المقال بها ، مثل أن يقوم بوصف القاعة التي كان يجلس فيها مع الخوميني ، مع بعض المعلومات التاريخية الشيقة عن المكان .
أستطيع أن أقول دون مبالغة أن أغلب كتّاب المقال السياسي في مصر والعالم العربي قد خرجوا من معطف الأستاذ ، فأي دراسة منصفة لكتّاب المقال السياسي خلال النصف قرن الماضي سوف تكتشف أن أسلوب الأستاذ يسيطر بشكل أو بآخر علي أغلب كتاب الأعمدة في الصحف العربية الشهيرة ، بل أن بعضهم لم يجد غضاضة في النقل الحرفي من مقالات الأستاذ القديمة والتي لم تعد في التداول .
في مرحلة دراستي الإعدادية والثانوية كنت دائماً أقوم بعمل مجلات الحائط ، ومنذ ذلك الزمن البعيد كنت أحرص علي وضع مقال تحت عنوان : " كلام في السياسة " ، وقد استمر معي هذا العنوان الذي نشرت به مقالاتي فيما بعد في أمريكا ومصر ، وكان هو عنوان مقالاتي المنتظمة في مجلة " الدبلوماسي " التي يصدرها النادي الدبلوماسي المصري لعدة سنوات متتالية .
لا أنسي أنني كنت في مهمة بالأردن حين صدر كتاب للأستاذ هيكل بعنوان : " كلام في السياسة " ، وسارعت بشراء الكتاب ، ثم كتبت مقالاً كان يحمل نكهة ساخرة لاذعة أطالب فيها بحقوقي الأدبية من الأستاذ علي إعتبار أنه سرق عنوان مقالاتي !! ..
وكان السفير العظيم محمد وفاء حجازي آنذاك هو رئيس تحرير مجلة الدبلوماسي ، الذي سارع بمكالمتي هاتفياً ما أن تسلم مقالي المذكور ، وعاتبني علي أسلوبي الساخر ، وعندما قلت له أنها " مجرد مداعبة " للأستاذ ، قال لي جاداً : " هيكل هرم كبير لا يليق أن نقذفه بالحجارة " .
لا يعني ذلك أنني كنت من الكهنة الذين يتعبدون في محراب هيكل ، فقد كنت أقرأه مفتوح العينين ، ولا زلت أتذكر إختلافي الكبير معه ، وغضبي الشديد عليه عندما كنت أخدم في جبهة القتال ، عندما قرأت مقالاً له قبل حرب أكتوبر مباشرة ، تحدث فيه عن استحالة تدمير خط بارليف إلا باستخدام قنبلة نووية ، لقد كان أثر هذا المقال ساحقاً ، لدرجة أنني كتبت له خطاباً وأرسلته من الجبهة ، أتذكر أنني قلت فيه : " أن جند مصر سيكونون هم تلك القنبلة النووية عن قريب " ..
كنت أدهش لعدم إهتمام الأستاذ بالرد علي أولئك الذين هاجموه بضراوة خاصة بعد إختلافه مع الرئيس السادات ، حين أنقض عليه حلف المطبلين والمزمرين لكل نظام يقذفونه بالتهم والأكاذيب ، رغم أن الأضواء قد انطفأت في صحيفة " الإهرام " عندما قرر السادات أن يخرج الأستاذ منها ، ورغم حقيقة أن توقف مقالات هيكل في الإهرام قد فتحت أمامه المجال دولياً لإصدار الكتب المتتالية التي زادت بها شهرته في العالم كله .
لقد أدركت مع الوقت حكمة الأستاذ في التعالي علي هؤلاء وعدم الإكتراث بما يقولونه ، لأنه كان يثق في قارئه ، ويعلم أن مصداقية هؤلاء مفقودة لدي القراء ، لذلك كان يجد أن الرد عليهم مضيعة للوقت واستهلاك غير مقبول لصفحات الصحف ، بل أنني أشعر أنه لم يفعل ذلك أيضاً إحتراماً للقارئ الذي لم يتوقع أبداً أن يسقط الأستاذ في مثل هذه المهاترات الرخيصة .
لا شك عندي أن الملايين في مصر وخارجها وبامتداد العالم يتابعون بقلق المتاعب الصحية التي يعاني منها الأستاذ مؤخراً ، ولا بد أنهم يضرعون إلي الله أن يمن عليه بالشفاء ، وأن يمنحه الصحة والعافية كي تستمر تحليلاته السياسية العميقة ، ويستمر ذلك الأسلوب الساحر في مزج السياسة بالتعبيرات الأدبية الراقية .
تعليقات
إرسال تعليق
أترك تعليق