سلامٌ على صحفيات وصحفيي مصر .. نحن مَدِينون لكم بنسمة أمل نَدِّيَةٍ أهْدَيتموها لنا في هذه الأجواء الخانقة التي نعيشها .. لا أقصد فقط فوز خالد البلشي برئاسة النقابة العريقة .. وَإِنْ كان ذلك هو العنوان الأكبر الذي تندرج تحته باقي التفاصيل .. فخالد في حد ذاته تعبيرٌ مثاليٌ عن التاج الذي يليق بأن يوضع على رأس النقابة .. سبيكة انصهر فيها الشباب والمهنية والمقاومة والنظافة .. منذ أن ألقى به الراحل الكبير د. محمد السيد سعيد في أتون التجربة مبكراً وهو يسبح ويقاوم ويُحجَبُ له موقعٌ فيفتح موقعاً آخر .. ولا ييأس من تكرار المحاولة .. وفي طريقه الشاق ما هان ولا خان .. وكان تكتل الصحفيين لانتخابه (لاءً) كبيرةً في وجه الممارسات الاستبدادية التي كان لنقابة الرأي نصيبٌ وافرٌ من تقيحاتها .. وصيحةً مبهجةً بأننا (نستطيع) .. وهذه النتيجة مرشحةٌ للتكرار (ولو بالتصويت العقابي ضد ممثلي النظام) في انتخابات النقابات والنوادي وغيرها من الانتخابات التي تنشغل عنها يد التزوير والبطش الفَجَّة (مسرحية الانتخابات الرئاسية شئٌ مختلفٌ تماماً).
لكن الشئَ الأجمل في قصة فوز خالد البلشي هو المشاهد التالية للنصر والمُكَمِّلَة له .. بدءاً من تهنئة الخصوم له واحتضانه لهم .. ثم تدفق الصحفيين من كافة التيارات على الإفطار الرمضاني منذ أيام .. صورة مبشرةٌ لمصر القادمة التي تتجاوز عِقداً من الاحتقان والمكايدات المُغَذَّاة التي لم يستفد منها إلا النظام المستبد.
لن أنسى ما حييتُ مشاعري في المرة الأولى التي دخَلْتُ فيها مبنى النقابة مَدعُوَاً من محمد عبد القدوس لحضور ندوةٍ للجنة الحريات سنة ٢٠٠٦ .. وأىُّ عارفٍ بتاريخ الوطنية المصرية لا بد أن يستشعر قدسية هذا المكان المهيب .. هذه النقابة مع نقابة المحامين هما أقدم منظمات المجتمع المدنى المصرية المقاتلة لترسيخ الحريات وفضح الفساد .. وهذا السُلَّمُ كان الملاذ الآمن لكل مظاليم مصر .. كان مشهد اقتحام السُلطةَ للسُلَّمِ والاعتداء البلطجي على الصحفيات والصحفيين فاضحاً لنهايات نظام .. أعقبه بعد ذلك اقتحام النقابة نفسها .. إلى أن جاء مَن قرر ابتلاع النقابة بدلاً من اقتحامها .. عادت النقابةُ (وكان لا بد أن تعود فهي عَصِيَّةٌ على الابتلاع وعسيرة الهَضم) وسيظل اقتحامها وتكميمها عاراً يلاحق مَنْ اقتحم ومَن أَيَّد.
كشأن أى مهنةٍ كان هناك (ولا يزال) قلةٌ منحرفةٌ تسترزق بالابتزاز والتدليس .. لكن هؤلاء يظلون الاستثناء الذى يؤكد القاعدة .. الأغلبية الكاسحة ممن ينتسبون لهذه المهنة (لا سيما الشباب) هم رأس حربة هذا البلد فى حربه التى لا تنتهى ضد الفساد والفاسدين .. يقاتلون عَنَّا بصدورٍ عاريةٍ وجيوبٍ خاويةٍ .. ويتهلل الواحد منهم فرحاً وترتفع هامته إلى عنان السماء وكأنه حصل على جائزةٍ مليونية إذا قرأ اسمه مكتوباً على تحقيقٍ كاشفٍ لفسادٍ أو مُظهِرٍ لحقيقة .. ويفرح كطفلٍ بشهادة شكرٍ وَرَقِّيَةٍ من رئيس تحريره أو نقابته .. وقُرَّةُ عينه أن يرى الفاسد وقد نال عقابه (وهو ما لا يحدث إلا نادراً).
فى عز اشتداد هجوم صًحف نظام مبارك على كاتب هذه السطور، فوجئتُ باتصالٍ من إحدى قرى الدلتا من صحفىٌ شاب يعمل تحت التمرين فى مجلةٍ أسبوعيةٍ كانت الأشد ارتماءً فى حضن السلطة، يطلب إجراء حوارٍ صريحٍ معى .. فلما صارحته بتشككى فى أن تنشر مجلته مثل هذا الحوار على صفحاتها .. أجابنى بأنهم لو علموا بمجرد لقائه معى لفصلوه، ولكنه سينشره باسمٍ مستعارٍ فى صحيفةٍ مغمورةٍ صاعدة .. كان إجمالى ما يتقاضاه من مجلته والصحيفة المغمورة يقل عن تكلفة انتقاله اليومى من قريته للقاهرة، فسألتُه عن جدوى ما يفعله، فأجاب بجملته التى لا يزال صداها فى أُذُنى رغم أننى نسيتُ اسمه: (لكى أظل صحفياً) .. تمتلئ الساحة الصحفية بأمثال هذا الشاب الذين يقتاتون المعاناة (لكى يظلوا صحفيين) .. هؤلاء هم ذخيرة مصر في معاركها المقبلة ضد الفساد والاستبداد.
فيا أيتها الكتيبة المقاتلة من حملة الأقلام .. والله إننى لأغبطكم على انتمائكم لهذه المهنة الشريفة .. ولولا أنَّ القطار قد فاتني لوددتُ أن أكون صحفياً .. نشكركم ونتشرف بكم ونُقَدِّرُ وَقفَتَكم .. ونعتذر لكم عمَّا فعله بعض السفهاء مِنَّا .. ومنكم.
المصدر : موقع ذات مصر
تعليقات
إرسال تعليق
أترك تعليق