(مُذ جِئتُ أدفعُ مَهرَ الحَرْفِ ما ارتَفَعَتْ .. غيْرُ النجومِ على أسلاكِ أسواري)- محمود درويش في قصيدته "برقية من السجن".
كُنتُ وكيلاً أوَّلَ للوزارة عندما زارني في مكتبي أحدُ رؤساء الشركات العامة الناجحة، يطلب دعمي (وساطتي) عند الوزير للتصديق على قائمةٍ بأسماء أعضاء مجلس الإدارة الذين يريدهم معه .. أوضحتُ له أنني لا أتوسط لأحدٍ ولكنني أُدلي برأيي لمن يستشيرني .. ابتسَمَ وقال (إذَنْ اقترِح عَلَيَّ بعض الأسماء) ..طرحتُ عليه عدداً من الأسماء التى تُثرى بخبرتها أى مكانٍ تعمل به .. فإذا بالرجل يضحك ساخراً ويقول: (لا .. لا .. هؤلاء سيتعبوننى بمناقشاتهم وفذلكاتهم .. أريد مجلسَ إدارةٍ لا يناقش القرارات وإنما ينفذها) .. وفاجأنى بقائمةٍ من عديمى الكفاءة والرأى الذين يُعتبرُ بدل حضور الجلسات أقصى أمانيهم .. ظننتُه مثقفاً (ولا زلتُ أعتقد أن الرئيس لا بد أن يكون لديه حدٌّ أدنى من الثقافة) فاستشهدتُ بأبيات عمّنا صلاح جاهين: (لولا اختلاف الرأى يا محترم .. لولا الزلطتين ما الوقود انضرم .. ولولا فرعين لِيف سوا مخاليف .. كان بينّا حبل الود كيف اتبرم؟ عجبى) .. فقال ساخراً: (يا باشمهندس ما علاقة الزلط والليف والحبال بالإدارة؟!) ثم أردف بما يظنه خلاصة الحكمة الإدارية المتجمعة لديه قائلاً: (إذا أردتَ النجاح فاختر معاونيك ممن قال فيهم شاعرٌ آخر لا أعرف اسمه "ما قال لا قَطُّ إلا فى تَشَهُّدِهِ" لكى لا يعيقوا تنفيذ رؤيتك) .. عبثاً حاولتُ أن ألفت نظره إلى أنه يستخدم بيت الفرزدق فى غير موضعه، فقد كانت الثقة الزائدة لدرجة الغرور تُغلق أُذنيه عن أى رأىٍ مختلف .. كان الرجل مخلصاً ومتفانياً فى عمله ولم يكن فاسداً، إلا أنه كان يحمل بداخله جينات مستبدٍ صغير .. وافق الوزير على قائمته بالكامل .. النتيجة بعد ذلك معروفة .. صورة طبق الأصل مما يحدث مع كل مديرٍ أو رئيسٍ متفردٍ برأيه يعتمد على الإلهام لا المستشارين .. بعض النجاحات الصغيرة فى البداية ثم الخواتيم الكارثية .. تفاقمت خسائر الشركة خلال فترةٍ وجيزةٍ وانتهى الأمر بالاكتفاء بإقالته.
لاحظتُ بعد ذلك خلال ممارستى الإدارية ودراسة نماذج النجاح والفشل فى مصر والعالم أن هذا البيت هو معيار اختيار القيادات فى الشركات والمؤسسات والدول الفاشلة التى تنتقى قياداتها على كافة المستويات ممن (ما قال لا قط) مِن أولئك السائرين (جنب الحيط) على كافة المستويات، إلى أن يصبح المجتمع كله شيئاً فشيئاً سائراً (جنب الحيط) فيلبس فى الحيط .. وهى روشتةٌ مؤكدةٌ للفشل .. عندما سُئل الإمام على بن أبى طالب كرَّم الله وجهه: ما يُفسِدُ أمرَ القوم يا أمير المؤمنين؟ قال: (وَضْعُ الصغير مكان الكبير، والجاهل مكان العالم، والتابع فى القيادة) .. بينما كل التجارب الناجحة، ينجح فيها المدير الذى يسعى إلى ضم وتقريب معاونين ومستشارين لا يتحرجون عن قول (لا) إذا وجبت.
ولأنَّ كلمة الحق أقوى من الرصاص، فإنَّ المستبدين لا يطيقونها ولا يكتفون بتقريب الإمَّعاتِ والتافهين وإنما يطاردون (لا) أينما وُجِدَتْ لكي لا تخرج من القلب والعقل إلى اللسان .. يُهَيِّئُ لهم غباؤهم أنهم بتلفيقهم التُهَم وتنكيلهم بقائليها سيخرسونهم .. لا يعلمون أنَّ (لا) مهما بلغت تكلفتُها تُريح قائليها .. إنَّ (لا) تُحَرِّقُ القلبَ ما حوصِرتْ فيه، وتُشَقِّقُ الحَلْقَ أثنا خروجها مِنْه .. فإذا وصلَتْ إلى اللسان زالَ الأَلَمُ وارتاح قائلها .. والسجن بالنسبة لقائلها هو (مَهْرُ الحَرف) كما قال محمود درويش .. أما قتيلُها فهو شهيد الكلمة، أعلى مراتب الشهادة وفقاً للحديث الشريف (سيِّدُ الشُّهداءِ حمزةُ بنُ عبدِ المطَّلبِ، ورجلٌ قام إلى إمامٍ جائرٍ فأمره ونهاه فقتله).
نحن نتحدث عن (لا) التى مَجَّدَ أمل دنقل قائلَها (مَنْ قال لا فى وجه مَنْ قالوا نعم).
(لا) التى تعنى الرأى الآخر .. المُختلِف .. المُبدع .. غير التقليدى.
(لا) التى تتقدم باحترامها أممٌ وتضيع بِكَبتِها وتخوينها وتجريمها أخرى.
(لا) التى تعنى فى الفقهِ التجديدَ .. وفى الأدبِ والفنِّ الإبداعَ .. وفى الإدارةاختلاف الرؤى والحلول .. وفى السياسة المعارضة .. وهكذا .. إلى أن نصل إلى (لا) التى وعد رب العزة قائلها بالجنة إذا كانت كلمة حقٍ فى وجه سلطانٍ جائر.
وإذا كان شهيدُ الكلمةِ هو سيدُ الشهداء .. فبالقياس، فإنَّ سجين الكلمةِ هو سيِّدُ السجناء .. فطوبَى لسجناء الرأي .. وتَبَّاً لسجانيهم.
حاشية المقال:
قصة بيت الفرزدق الشهير (ما قال لا قَطُّ إلا في تَشَهُّدِه): كان الخليفة الأموى هشام بن عبد الملك يحج برفقة حاشيته وكان البيت الحرام مكتظاً بالحجيج ولم يفسح أحدُ له المجال للطواف والوصول للحجر الأسود فأُتِىَ له بمُتكأٍ ينتظر دوره .. فإذا بالإمام زين العابدين عَلِيٍّ بن الحسين رضى الله عنهما يدخل الحرم، فانشقت له صفوف الناس طواعيةً وأفسحوا له الطريق حُبَّاً ومهابةً حتى أدرك الحجرَ الأسود .. فثارت حفيظة هشام بن عبد الملك .. ولما سأله أحد مرافقيه مِن أهل الشام عن هوية ذلك الشخص المهاب، أجابه هشام أنه لا يعرفه، مع أنه كان يعرفه جيداً .. وقال لمن حوله باستنكار: مَنْ هذا؟ .. فلم يتمالك الشاعر الفرزدق نفسه وارتجل قصيدته المشهورة على مسمعٍ من هشام بن عبد الملك، التى من أبياتها:
وليـس قـولُك مَـنْ هذا بِضـائِرِهِ ... العُرْبُ تعرفُ مَن أنكرتَ والعَجَمُ
هـذا ابنُ خـيـر عـبـاد الله كُلِّهمِ ... هـذا التقـىُّ النقىُّ الطاهرُ العَلَمُ
إذا رأته قريــشٌ قـال قـائلــُها ... إلـى مَكـارم هذا ينتهى الكرمُ
مـا قـال لا قَـطُّ إلا فـى تَشَـهُّدِهِ ... لَـوْلا التشَهُّدُ كـانت لاءَه نعمُ
يقصد أنه شديد الكرم لدرجة أنه لم يقل (لا) فى حياته لسائلٍ أو محتاج، وأن (لا) الوحيدة التى يقولها هى (لا) إله إلا الله فى التشهد .. وهو معنىً مختلفٌ تماماً عن الذى فهمه رئيس الشركة الذى بدأت به المقال .. كانت هذه القصيدة فى حد ذاتها أكبر (لا) قالها الفرزدق .. وهو وإن كان لم يُسجن بسببها أو يُتَّهَم بحيازة منشورات أو نشر أخبارٍ كاذبةٍ أو الانضمام لجماعةٍ إرهابيةٍ .. إلا أنه على الأقل حُرِم من صُرَّةٍ معتبرةٍ من المال العام مما كان الحكام يمنحونها لمادحيهم من الشعراء.
المصدر : موقع ذات مصر
تعليقات
إرسال تعليق
أترك تعليق