منتصف عام 1997, تلقت الصحف القومية تعليمات بالإشارة إلى اسم "جمال مبارك" على أنه عضو "مجلس رجال الأعمال المصرى – الأمريكى".. ليبدأ الهمس حول "ابن الرئيس" ودوره فى المستقبل.. تحول الهمس إلى أسئلة وتوقعات بمجرد الحديث عن "أمانة السياسات" فى الحزب الوطنى الديمقراطى – الحاكم – وأنها تمثل محاولة لتجديد شباب الحزب!!
ترأس "جمال مبارك" الأمانة الجديدة.. تهافت على عضويتها كل "طامح" و"طامع" فى دور بعيدا عما كان يسمى بالحرس القديم.. تحولت "الأمانة" إلى أنها أصبحت الحزب والحكومة, وفرع آخر لرئاسة الجمهورية!! وانطلق الحديث عن "التوريث" الذى يتم نفيه نظريا.. بينما كان يجرى الإعداد لتنفيذه عمليا.. الخطوة الأولى فى هذه العملية كانت بتنصيب "عاطف عبيد" رئيسا للوزراء.. فقد انطلقت هذه الحكومة بسرعة غير عادية فى طريق ما يسمى "الخصخصة" وعلى جانبى هذا الطريق تشكل عدد من "رجال المال" أسموهم "رجال أعمال" ليمسكوا بخناق "البرلمان" و"مجلس الوزراء" إضافة إلى مواقع مهمة تملك مفاتيح اقتصاد البلاد.. تغيرت قواعد اللعبة مع جماعة "الإخوان" لتعرف حوارا فى الكواليس عبر "جهاز أمن الدولة" سمح لهم بهامش أكبر من الحضور السياسى.. القبول بسيطرتهم على النقابات ومحاولة اختراق الأندية الرياضية, مع إضافة تسهيلات للفوز بجزء من "كعكة الاستثمار العقارى" فى المجتمعات الجديدة.. وتم فتح الباب لما يسمى الإعلام الخاص, الذى تهافت عليه "رجال مال" لهم امتداداتهم خارجيا – خليجيا ودوليا – لتظهر صحف وقنوات تتمتع بقدر أكبر من الحرية!!
بدأ "جمال مبارك" يحكم مصر من الكواليس!!
إعتقادى أن "مبارك الأصل" سلم الحكم فعلا إلى "مبارك الصورة" بعد قول "محمد حسنين هيكل" أن مصر تعيش "أزمة سلطة شاخت فوق مقاعدها".. لأن التوصيف كان كاشفا للحقيقة وواقع الحال.. إبتسمت "واشنطن" وعبرت دول الخليج عن ارتياحها, لاعتبار أن مصر التى رفعت رايات النظام الجمهورى سترتد إلى ما كانت عليه قبل ثورة 23 يوليو.. راهن الجميع على أن كتاب "زمن عبد الناصر" سيتم إغلاقه ودفنه نهائيا!!
ذهبنا إلى "جمهورية مصر التجريبية" لتتقاذفها عواصف مازالت مستمرة!!
إنفتحت أبواب الديون من جديد, مع ربطها بالإسراع فى تصفية ما تملكه الدولة من شركات ومصانع.. غرق الشعب فى الاستهلاك الذى يموله فساد جعلوه دليلا على "الشطارة" وأصبح "الشطار" هم رجال المرحلة.. أدمنت البلاد الديون.. أدمنت نخبتها "الفهلوة" وراحوا يتهافتون على حاكم البلاد الجديد الذى لم يتسلم دفة الحكم رسميا.. تدهورت الصناعة أكثر.. جرى تسريع خطوات تخريب الزراعة.. لماذا نزرع أو نصنع طالما أن كل ما يحتاجه المجتمع يتم استيراده؟!! إنخفضت الصادرات وزادت الواردات بصورة مذهلة.. أصبح "الدولار" هو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة فى حياة الناس.. سمعنا جملة "تعويم الجنيه" ورافقها "بيع الأصول" بعدما اكتسب دعاة "الخصخصة" جرأة أكبر, وامتلك "صندوق النقد" مقدرات البلاد.. قدم تطويرا لما سبق أن وصفه لعلاج اقتصاد كان يتداعى.. طلبوا حكومة جديدة تواكب التطور الجديد.. جاء "أحمد نظيف" ومعه "شلة واشنطن" بوجوه مكشوفة عبر "أمانة السياسات" بدعم من الحاكم الفعلى الذى راح يتعجل تنصيبه!!
إرتعشت مصر وقررت أن تقاوم المرض الذى تمكن من جسدها!!
أدرك الرأى العام أن ما يسمى "هامش الحرية" ليس سوى وسيلة.. فهمت "بقايا النخبة" أنها تعرضت لخديعة.. لأن أول وزارة بإرادة "الحاكم الفعلى" راحت تنفذ ما يريده "الليبراليون الجدد" فى الولايات المتحدة الأمريكية, وراحت تربط مصر بما تريده "واشنطن" الذى قال عنها الدكتور "مصطفى الفقى" أنها صاحبة القول الفصل فى اختيار حاكم مصر.. لم يذكر ذلك بسذاجة, بل كان مطلوبا منه إعلان ذلك باعتباره يملك جرأة القول.. فهو مع وضد فى نفس الوقت!!
إنقلبت الرعشة إلى غضب استثمر فيه "الإخوان" كعادتهم!!
ذاعت كلمة "التوريث" وأصبحت سيئة السمعة عند المصريين!!
بدأت الحكومة الجديدة – أحمد نظيف – تصرخ بما يعتقده ويراهن عليه صاحب "أمانة السياسات" بأن "الاستثمار هو الحل" يبدو كما لو كان فى مواجهة "الإسلام هو الحل" مع أنهما يمثلان وجهين لعملة واحدة.. فالحكومة تبشر الشعب بارتفاع معدل النمو الذى سيحل مشكلة البطالة وسوء توزيع الدخل.. وجماعة "الإخوان" تتحدث عن الضمير والعودة إلى الله, وتطرح "نظرية البركة" للخروج من الأزمة!! الطرفان يرى كل منهما أن المستقبل فى الاستثمار.. أحدهما يراهن على استثمارات جناح فى الخليج, والآخر يرى أن الجناح الثانى هو الأفضل.. بينما "واشنطن" تدير الطرفين, تطلب خطوات أسرع نحو "تخارج الدولة" من الاقتصاد.. بدأت الحكومة تزف نجاحها للشعب.. برفع معدل النمو إلى أكثر من 7% بعد أن كان 4% فقط.. إحتفت الحكومة بارتفاع حجم الاستثمار إلى 11 مليار دولار.. أعلنت أنها جلبت 8,2 مليار دولار من خزينة "الخصخصة" دون أن تقول أنه قيمة بيع "لحم وطن" وأن العائد لا يذهب للشعب.. وخرج "جمال مبارك" ومعه "يوسف بطرس غالى" و"محمود محيى الدين" ليقولوا أن ثمار التنمية لم تسقط على الشعب!!
ماذا يعنى هذا الكلام العجيب؟!
هناك فى "واشنطن" له معنى فى نظرية تسمى "التساقط".. وهى باختصار تقوم على نموذج يسمونه "الحصان والعصافير".. ومعناها أن ما يسقط من فم الحصان – رجال المال – يكفى العصافير – الشعوب – وهذا يفرض تخفيض الدعم للفقراء, الذين سيتولى أمرهم "أحصنة الزمن القادم".. ومعهم منظمات المجتمع المدنى التى تعمل فى مجال "الصدقات" ومساعدة الأكثر فقرا ولا مانع من مساعدة الفقراء الذين سيتكاثر عددهم.. بشرط إطلاق الحرية.. كل الحرية للأسعار.. لوقف تبديد موارد الدولة المالية, حتى لو كان الثمن طحن البشر وتدمير الموارد البشرية!!
إرتبكت مصر وانقلبت غضبها إلى توتر يتجه نحو الغليان!!
الحاكم الرسمى له رجاله.. الحاكم الفعلى معه رجال آخرين.. نظرة الفريقين للحاضر والمستقبل تختلف عن بعضهما.. الحسم الذى كان صعبا أصبح مستحيلا, لأن أصواتا جديدة وغريبة بدأت تظهر وتعلو.. كانت أصوات الشباب رافضة للأب, وحانقة على الابن الذى أحاط نفسه بنوعية رديئة من الانتهازيين!! فوجئ الجميع بأن حركة "كفاية" كصرخة ضد الأب, تحولت إلى حالة غضب شبابية إشتهرت باسم "جماعة 6 ابريل" المجهولة لغير الأجهزة الأمنية.. كفر الشعب بشعار "الاستثمار هو الحل" وخطف أنظار الأغلبية شعار "الإسلام هو الحل" لعل "نظرية البركة" تنقذهم من فلسفة "التساقط" لأن "أحصنة مصر" من "رجال المال" بلا عقل ولا فكر.. لا يملكون غير مهارات إضافة المزيد لحساباتهم البنكية فى عواصم الغرب!!
ركن "حسنى مبارك" إلى خيار "جمال مبارك" بضرورة تعجيل الحسم!!
فطنت "واشنطن" إلى أن مصر أصبحت فى مفترق طرق!!
كان "البيت الأبيض" قد أصبح أمره فى يد حاكم شاب – أوباما – جاء مؤمنا بأن "الولايات المتحدة الأمريكية" أصبحت تملك أن تقول ما تريد.. تفعل ما تريد.. لذلك تبنى نظرية "الفوضى الخلاقة" التى تقوم على خلط الأوراق, واختيار الورقة الرابحة طالما أن الجميع "عيال أمريكا"!!
كان "جمال مبارك" والذين معه قد "بصموا" على ما تريده "واشنطن".. و"بصمت" جماعة "الإخوان" وكل الذين يلتفون حولها على المشروع نفسه.. دفعت "واشنطن" بورقة مختلفة "بصمت" مسبقا وقدمت البرهان – الدكتور البرادعى – وانطلق المزاد العلنى.. لتحدث مفاجأة بعثرت الأوراق.. إنفجرت "ثورة تونس" التى كانت فى الهامش.. إنطلق "الزلزال" الذى أذهل الجميع خاصة فى مصر, ليظهر "أحمد أبو الغيط" وكان وزيرا للخارجية ليقول: " مصر ليست تونس" وخلفه يردد الكورال الجملة نفسها.. حتى أكدت مصر أن تونس سبقتها فقط فى الانفجار!!
فرض صراع الذين يعانون من فائض الثروة نفسه على مصر.. على أرض مصر!!
كانت "قطر" جاهزة للصراع لسابق إعدادها من جانب "واشنطن" وأصاب الارتباك كل من "الإمارات" و"السعودية" و"الكويت".. لأن الدول الثلاث كانت تعانى أمراض عدم الاستقرار وتغيير الجلد.. إنفجرت "ثورة 25 يناير" لتجد المنطقة نفسها وسط "بركان" بعد "الزلزال".. وراحت النيران تحصد أنظمة, بينما الشعوب فى حالة هلع من اهتزاز الأرض تحتها!!
بقيت "الديون" كلمة السر القادرة على احتواء الموقف!!
إنفجرت الدول التى كانت تعانى "الكبت السياسى" باعتباره منحة لأعداء الأمة.. إنفجرت الدول التى كانت تعانى "الكبت الاجتماعى" الذى يخلق الفوارق بين الطبقات.. وهنا راهنت "واشنطن" على أن "الخوف هو الحل" وهذا لا يحققه غير "حاكم كداب"!!
تعليقات
إرسال تعليق
أترك تعليق