يحيى حسين عبد الهادي يكتب : رمضان حزين


إنَّ الرحمةَ والحِنِّيَةَ ليست قناعاً يرتديه المسئول لأغراضٍ دعائية ثم يخلعه .. وإنما هى خُلُقٌ دائمٌ لا يتجزأ .. يُلازمه فى كل تصرفاته .. وإلا تحولت إلى شكلٍ من أشكال الرياء.

بينما امتلأت قاعة الاحتفال الرسمي بعيد الأم بمئاتٍ من الفُضليات في جوٍّ من البهجة والسرور والاستظراف والضحكات المجلجلة .. كانت هناك مَناحاتٌ مُقامَةً بامتداد الوطن لأمهاتٍ أُخرياتٍ لا ينعَمْنَ بعطف واهتمام السيدة مشيرة خطاب ولا السيدة مايا مرسي ولا غيرهن من سيدات الصف الرسمي الأول في هذا العصر  ..بل ولا كُلٍّ من شيخ الأزهر ولا بابا الكنيسة اللذين لم ينطقا بكلمةٍ عن أُمهات المعتقلين (ولا المعتقلين أنفسهم طبعاً) طوال هذه العَشرية. 

إنَّ الأم (أي أُم) ينفطر قلبها هلعاً إذا وَخَزَت  ابنَها شوكةٌ .. فما بالكم إذا اختُطِفَ منها وأُلقِىَ في سجنٍ رهيبٍ حيثُ لا تعلم عنه شيئاً (هل مَرِض؟ هل يتعرض للتعذيب؟ على ماذا أفطرَ أوَّلَ رمضان؟ .. إلخ) .. ثم غاب عنها ابنها الثاني، لا لشئٍ إلا لأنه شقيق ابنها الأوَّل.

أُحدثكم عن أم رجلٍ  شريفٍ كان سَنَدَها بعد وفاة الأب، صار شخصيةً عامةً باختيارٍ إخوانيٍ مُوَفَّقٍ (مقابل اختياراتٍ أخرى كارثية) .. كان الرجل أستاذاً جامعياً في الهندسة الطبية لا شأن له بالتموين ولا الاقتصاد وليس معروفاً إلا في دائرةٍ ضَيِّقَةٌ في مجاله الأكاديمي .. صار باسم عودة وزيراً للتموين ستة شهورٍ فقط، دَفَعَ ثَمَنَها عشر سنواتٍ في السجن (حتى الآن).

ستة شهورٍ فقط لم ينجز الرجل فيها شيئاً كثيراً ولكنها كانت كفيلةً بأن يطلق عليه الناسُ (حتى من غير الإخوان) لقب وزير الغلابة .. ليلتحق بقائمةٍ مُشَرِّفَةٍ وقصيرةٍ من الوزراء (أبرزهم د.كمال رمزي ستينو في الستينات، و د.جودة عبد الخالق واضِع منظومة الخبز ومحارِب المحتكرين للسلع الاستراتيجية الرئيسية كالأرز والسكر بعد ثورة يناير).

لم ينسف الشابُّ الطَيِّبُ ما أنجزه سابقوه (على عكس العادة الفرعونية) .. وطَوَّر على قَدْرِ ما سمحت به ولايتُه القصيرة .. ونزل إلى الناس من برجه الوزاري العاجي .. ولم ينطق بتصريحاتٍ مستفزة أو جاهلة .. ولَم يَألُ جهداً لفهمِ ما خَفِىَ عنه في هذا المجال الجديد عليه (ولَدَىَّ شهاداتٌ مباشرةٍ لم أستأذن أصحابها ممن سَعَى إليهم ليسألهم رغم اختلافهم فكرياً مع فصيلِه).

ستة شهورٍ أدخلته القلوب سريعاً .. بِفضل العِلمِ .. والإخلاص .. ونظافة اليد واللسان  .. والقُبُول الذي يختص اللهُ به بعضاً من عباده.

فوجئتْ الأُم باعتقال ابنها البار وحَشْرِه مع قيادات الجماعة .. وبدأَت تعاني(ككل أمهات المعتقلين وزوجاتهم وبناتهم) في الزيارات القليلة التي سُمِح لها بها .. وفي إحدى الزيارات عَلِمَ منها تَعَنُّتَ إدارة السجن في إدخال وجبةٍ كانت تعرف أنَّه يحبها .. فأقسم عليها ألا تُحضرَ له أيَّ طعامٍ بعد ذلك مُتعللاً بأنَّ طعامَ السجن شَهِيٌّ ومتنوع فلا داعي للتعب (كذبةٌ بيضاء) .. ثم مُنِعتْ عنه الزيارةُ تماماً منذ حوالي سبع سنوات.

دخل الرجلُ السجنَ وعُمرُه ٤٣ سنة ومنذ أيّامٍ أكمل ٥٣ عاماً وهو في حبسٍ انفرادي معزولاً عن الدنيا .. والأُمُّ لا تَعلَمُ عن فلذة كبدها شيئاً .. تبكي وتُناجي رَبَّها في غرفتها من الفجر إلى ما شاء الله (كما أخبرني أخوه الأصغر بهاء).

لم ألتقِ باسم في حياتي .. ولكنني عِشتُ مع بهاء معظمَ فترة اعتقالي .. شابٌّ دمث الخُلُق ليس له أيُ نشاطٍ عام (لا سياسي ولا حقوقي) .. انتقلت الأُمُّ للسُكنَى معه بعد اعتقال أخيه .. منذ خمس سنواتٍ اعتقلته الجمهورية الجديدة .. جمهورية الرحمة والحِنِّيَة .. وكانت زوجته حاملاً .. قال بهاء لِمَن لا يراه وهو معصوب العينين عند بَدْءِ (التحقيق): (قُل لي ما الذي تريده فقد أقوله دون تعذيب) .. فأجابه (نريد أن نعرف مِن أين تعيش زوجة باسم؟) .. فأجابه بهاء (أساعدها في محنتها بما أستطيع .. والقانون والعُرْفُ يلزمان العَمَّ بالإنفاق على أبناء أخيه الغائب).

حُبِسَ بهاء في سِجن (طرة تحقيق ) حيث زامَلْتُه ثلاث سنواتٍ .. إلى أن افترقنا إلى سجونٍ أُخرى .. وبعد شهورٍ قليلةٍ من اعتقاله مُنِعَت عنه الزيارة .. ثم رُزِق بطفله الذي لم يَرَه حتى الآن .. .. وقبلَ ثلاثة أسابيع صدر الحُكمُ بمعاقبته بالحبس المشدد ١٠ سنواتٍ فيما عُرِفَ بقضية المنظمات الحقوقية(!).

الحمد لله أنّ أُمَّه لم تشهد لحظة اعتقاله مما أتاحَ للأهل أنَّ يخبروها بأنَّه سافر للخارج خشية اعتقاله كما جَرَتْ العادة في اعتقال الأقارب .. وأنَّه لَمْ يشأْ أن يُخبِرَها لتَجَنُّبِ أَلَم لحظة الوداع .. ولن يتصل بها خشيةَ ملاحقته (كذبة بيضاء أُخرى!) .. فحمدت الأُمُّ اللّهَ رغم لَوعتها أنَّ أحد ابنيها لا زال حُرَّاً وَإِنْ غاب عنها .. أرجو وأُلِّحُ في الرجاء ألَّا يُخبرها أحدٌ بمضمون هذا المقال (بِحُسْنِ أو سوء نِيَّة).

تظل حالة أُمِّ باسم نموذجاً متكرراً للآلاف من أُمَّهات مُعتقلي هذا العصر (علاء ودومة وزياد ومالك وجلال البحيرى ومحمود شعبان وعائشة ومنال وصفاء  .. إلخ) .. فضلاً عن الأُمَّهات المُعتقَلات .. لكُلٍّ منهن محنةٌ ستُروَى ذات يومٍ في سِفر الآلام .. فسلامٌ على (كُلِّ أُمِّ باسم) في عيد الأم .. ودعاءٌ إلى الله أن يُفَرِّج كروبهن وكروب الوطن .. ويغفر لنا تقصيرنا.


المصدر : موقع(ذات مصر)

تعليقات