د. يحيى حسين عبد الهادي يكتب : حضرة المتهم أبي


" العنوان مقتبسٌ من اسم المسلسل الشهير".

(في فيلم "فاطمة" للسيدة أم كلثوم مشهدان في قاعة المحكمة، يحكم القاضي في أولهما كما تقضي قواعد العدالة بما توافر له في ملف القضية من أدلةٍ، فيُدين فاطمة "البريئة" .. فلا يرتفع صوتُ احتجاجٍ في القاعة التي يعرف كلُ الجالسين فيها أن الفتاة بريئةٌ .. بل يقتصر الأمرُ على تكاتف أهل الحارة الطيبين في جمع "الكفالة" التي قضى بها الحُكمُ، وغناء أم كلثوم رائعتها «السنباطية» المؤثرة "ظلمونى الناس" ..  ثم تمضي أحداثُ الفيلم كما هي أفلامُ تلك الفترة، حتى يأتي المشهدُ الآخرُ (في المحكمة أيضاً) عندما تتضح "الحقيقة" للقاضي فيحكم ببراءة فاطمة، فتصدح القاعة بالهتاف الذي لا تحيا الأوطان والمجتمعات بغيره "يحيا العدل" .. ثم تنزلُ لافتةُ النهاية على صورةٍ مُعبّرة لحارةٍ هادئةٍ مطمئنةٍ بعد أن قضى القاضي مِنْ على مِنصته المهيبة العالية بما يعرف الناس قَبْلَهُ أنه "العدل”) .. هذه المقدمة مقتبسةٌ من مقالٍ قديمٍ للمفكر الكبير د.أيمن الصياد.

في هذه الحارة الهادئة المُطمَئِنة (مصر) نَشَأَ كاتبُ هذه السطور في بيت قاضٍ .. في مجتمعٍ ينظر للقاضي نظرة حُبٍّ ومَهابةٍ .. لا لمنصبِه ولا لراتبِه ولا لسُلطتِه ولا لوضعِه الاجتماعى .. ولكن لِعَدْلِه .. فالقاضى يكتسبُ حصانته مِنْ عَدْلِه .. وإذا اهتز ميزانُ العدالة فى يد القاضى يفقد صلاحيته قبل أن ينزعها عنه مجلسُ الصلاحية.

 أحببتُ أبي حباً كبيراً، وكان قاضياً شريفاً .. وقد استقر فى رَوْع جيلنا منذ الطفولة أنهما صفتان متلازمتان، أى أن كل قاضٍ لا بد أن يكون شريفاً .. أحببتُ فيه الأبَ وأحببتُ فيه القاضى .. وامتزج الحُبَّان شيئاً فشيئاً فى وجداني حتى صارا شيئاً واحداً .. فصرتُ أُبصر فى كل قاضٍ وجهَ أبى .. بِغَضِّ النظر عن السِنِّ .. وصِرتُ أغضبُ للقضاة الحقيقيين .. ألَا يَغضبُ الإنسانُ لأبيه؟!.

ذات يومٍ أثناء ترحيلي من سجن المزرعة إلى حيث يقوم أحد (قضاة!) أمن الدولة بتجديد الحبس تلقائياً دون أن يراني، لم أنتبه إلى أن ذلك السجين الشامخ (شكلاً وموضوعاً) الذي يناديني، هو المستشار/ هشام جنينة .. فرغم معرفتي العميقة به إلا أن عقلي الباطن لم يتخيله في بدلة السجن الزرقاء وسط ثُلٍّةٍ من الحراس، اندفعوا ليمنعوني من السلام عليه، وكأنَّ تَلَاقي كَفَّيْنا سيُحدِثُ شرارةً تُفَجِّرُ السجنَ والوطن .. عندما خَلَوْتُ بنفسي في ذلك اليوم بَكَيْتُ بِشِدَّة .. بَكَيْتُ فيه أبي .. لم يكن في المشهد رغم قسوته ما يُهِين هشام جنينة .. لكنه كان يشين ويعيبُ نظاماً بأكمله، كَثُرَ فيه الخَبَثُ وزاد منه العَبَث.

سَنَة ٢٠١٠ قبل ثورة يناير، كان من أهم مطالبنا أن يشرف القضاء المصري على أي انتخابات (وهو ما تَحَقَق فيما بعد) .. الآن صار المطلب هو الإشراف الأُمَمي على أي انتخابات .. الفارق بين المطلبين يُلَخِّصُ ما أحدثته العَشرية السوداء من شرخٍ في علاقة واحدةٍ من أَعَزِّ مؤسساتنا مع أهل الحارة الطيبة التي بدَأْتُ بها المقال .. وهو نفس الشرخ الذي أَحدَثَه هذا النظام في علاقة كل المؤسسات مع الشعب  .. هذه مؤسساتنا .. والشعب أراد إسقاط النظام لا الدولة .. الإصلاح لا التدمير .. لكن المصيبة هنا أعظم .. فالقضاء المستقل هو نقطة البداية المؤكدة لأى نهضةٍ مرجوةٍ لهذا البلد بعد نهاية هذه المرحلة وإزاحة العقبة الكأداء .. علينا وعليهم جَبْرُ الشرخ ورتق الخرق.

أخي وصديقي ودُفعتي .. ها قد دار الزمنُ دورتَه .. وقد نزع اللهُ عَنَّا ملابس السجن الزرقاء .. دون أن نُغَنِّي (ظلموني الناس)، فالناس لم يظلمونا وإنما أحاطونا بدعواتهم .. ولهم ومعهم سنُغَنِّي ذات يومٍ بإذن الله (نصرة قوية) .. وها نحن نلتقي في بيتك العامر  مع أسرتك الصابرة المثابرة .. وقد غاب حرس السجن وحَلَّ محلهم حُرَّاسٌ حقيقيون (د.عبد الجليل مصطفى، د.محمد رءوف حامد، د.يحيى القزاز، د.عمار علي حسن، أ.أحمد طه النقر، د.أحمد دراج) يحيطوننا بالحُبِّ ولا يمنعون تَلَاقِينا .. بالأحضان.

عقب عودتنا من زيارة المستشار الجليل/ هشام جنينة

تعليقات