بعد أن أقبل الناس على التعليم وإكتظت المدارس أصبح بعضها فترتين...ولتحقيق العدالة كان نصف المدرسة صباحى ونصفها مسائى من سنة أولى حتى سنة"ساته" ويتبادلان المواقع فى النصف الثانى من العام.
كنت قد جئت من مدرسة تطبق اليوم الكامل منقولا وعز عليَّ أن أفارق أصحابى دون وداع...جاء أبى "بغتة"وسحب الملف وإستدعتنى الناظرة حاملاً شنطتى وفارقت معلمتى وجارتى أبلة "لواحظ" و"منى ناصف حسن" البنت اللطيفة المسمسمة والتى دارت الأيام وألتقيتها زميلة فى "سكشنى" بالكلية و"السيد وجيه عطية" إبن المنصورة زميل التختة والساكن فى أرقى أحياء المدينة حى أطلس والمخصص للمهندسين بناة السد العالى و"مصطفى الأقصرى" الذى كان يحكى لى كل يوم سبت فيلم الجمعة الذى أذيع فى تلفزيونهم وأنا من عز الراديو فى بيتهم وهو أول من عرفنى بعنترة إبن شداد وفريد شوقى وأنور وجدى وأمير الإنتقام وحسن الهلالى !
وهاأنا فى مدرسة فترتين...مدرستى الأولى كان بها علية القوم والثانية بها عامة الشعب الذى أنا منهم...كان النقل بسبب إنتقالنا لبيت جديد أبعد عن تلك المدرسة"المدرسة المشتركة" وهاأنا فى مدرسة "مصطفى كامل"...كنا نسكن بالإيجار تسعون قرشا شهريا وإنتقلناإلى السكنى فى بيت إشترينا أرضه بخمسين جنيه ثم بنيناه !
وبدأت فى سنة 64 وكنت فى الصف الثالث الإبتدائى بالفترة الصباحية وكان باقى كام أسبوع على إنتهاء التيرم الأول...كنا نخرج فى هذه المدرسة فى منتصف النهار ويدخل بعدنا بتوع الضهر.
المدرسة بكاملها وهى خارجة تقابل مدرسة وكأنها حفلة سينما فى أيام الأعياد تخرج وتقابل فى وشك من ينتظرون الدخول ولكن مع الفارق ...بتوع السيما يخرجون فى صمت أما نحن فكان هناك هتاف جماعى لا أعرف من يطلق شرارته.
كالمظاهرات الكانونية"نسبة إلى كانون الثانى الشهر السريانى المقابل لشهر يناير والتى إنطلقت فى 2011 عز من عاصرها أو شاركها " كان الهتاف : يابتوع الصبح يافندية يابتوع الضهر ياحرامية.
لكن بتوع الضهر كان لهم هتاف مضاد وهو: يابتوع الصبح ياحرامية يابتوع الضهر ياأفندية...والحقيقة أن السبب فى هذه الإتهامات المتبادلة أن أحداً من بتوع الصبح لو نسى أستيكة أو مسطرة فى درج التخته فلن يجدها تانى يوم وكذا بتوع الضهر.
بعد هذا العمر أعتقد أن هناك طرف ثالث محل إتهام وهو فراش المدرسة الذى يكنس الفصول آخر النهار، وبين طابور جاد فى الصباح به حكمة الصباح وخطبة الصباح وطابور هزلى بعد الضهر عبارة عن طبلة لدخول الفصول السريع بعد الإصطفاف كان هناك فارق آخر هو أن بتوع الضهر كانت لديهم مساحة زمنية للتسكع فى المدرسة ولعب الكورة فى حوش المدرسة بعد دق جرس الإنصراف، كان جرساً يدوياً يشبه جرس الكنائس قبل إدخال الجرس الكهربى إلي المدارس...
وبعد أجازة نص السنة وواجب مدرسى يلتهم الأجازة من عينة كتابة هذا الدرس خمس مرات وهذا الدرس ثلاث مرات، وعند العودة من الأجازة يكون المدرس قد نسى واجباته التى أعطى فلايثاب الملتزم على حسن آدائه ولا المتخاذل على تقصيره، فيتحسر المجتهد على ضياع عمله وجهده ووقته ويفرح المتكاسل بنجاته من الحساب أو حتى العتاب على تقصيره...وهكذا هى الحياة !
فى هذه الفترة البعد ضهرية فى بيتنا كنا نصحو فى الفجر كالعادة حيث كانت لنا مهام منزلية ونفطر فى الميعاد ونكمل واجباتنا المدرسية إن لم يكن أسعفتنا ليلة الأمس فى إنجازها وكان الوقت يسمح بقليل من اللعب فى الشارع مع ترقب ظل حائط بيتنا حتى إذا وصل إلى منتصف الشارع فهذا يعنى أن موعد المدرسة قد حان وإذا تصادف أن مر أحد ممن يلبسون الساعات أو يمتلكون ساعات بسلسلة يضعونها فى جيب الساعة الموجود فى كمر البنطلون أو الجانب العلوى فى الجلابية للابسيها، ونسأل ياعم كم الساعة ؟!
وكانت هناك أغنية لبنانية لطيفة فيها أحدهم يغازل ويعاكس فتاة ولكن بطريقة لطيفة"مش تحرش"...تقول كلماتها:
ياست قوليلى قديش الساعة
لوحامل ساعة ما سألتك
وحياتك ما بأملك ساعة
لو بأملك ساعة ما أسألشى
وحياتك مش حامل ساعة
ياست ياست قوليلى
المهم...ثم ننطلق فى عجالة ونلبس المريلة والشنطة المِخلة القماش...ونصادف نحن الأفندية بتوع الصبح الحرامية أمام باب المدرسة !
وكأننا حزبين سياسيين أحدهما فى الحكم والآخر فى المعارضة، بتوع المعارضة يتهمون من فى السلطة باللصوصية، ويعرفون أنفسهمةبأنهم حزب النزاهة،وتدور الأيام وتدور معها التهم !
وفى الحقيقة كلهم لصوص وكلهم شرفاء، حسب قدراتهم الإعلامية !
وتدور الأيام بين فترة صباحية وفترة مسائية حتى تنتهى دراستى الإبتدائية وتظهر النتيجة فى أواخر مايو، وخطاب من أبى وقد كنت فى البلد 255/300 ودرجاتى فى الحساب 99.5/100.
مازاد فرحتي فرحتين أنه بعد أيام كان العدوان الإسرائيلي علينا وأصبحت طائراته تتساقط وأنا كنت ساعتها قد سافرت إلى البلد حيث أقضى أجازتى الصيفية فى وكنت أنتشى عندما كنت أسمع بياناتنا العسكرية من راديو ستى" جدتى" الذى كان لايصمت وكان هو صلتها الوحيدة بعالمها الخارجى عندما ينفض الجميع من حولها إلى أعمالهم وهى الحبيسة رفيقة طه حسين والمعرى فى محبسهما.
وكبرنا وتخرجنا وأصبحنا تروسا فى ماكينة الحياة فمنا من تآكل وخرج من الخدمة ومنا من ينتظر...كنا نتبادل الإتهامات حرامية وأفندية، وستظل هذه الإتهامات تطاردنا من أصبح فى كرسى السلطة فهو حرامى فى نظر الشعب وهو من علية القوم وصفوته ومن شعب الله المختار فى نظرته للشعب، وقد يكون !