مضى سبعة عشر يومًا كأنها سبعة عشر عامًا أو يزيد، الليل طويل موحش، والحشرات تزحف علينا من كل شق وجحر، ورائحة المجارى العفنة تملأ الخياشيم، صراع غير متكافئ بين من أرادوا الحياة وتمنوها. وبين من احترفوا صناعة الموت وأدمنوها.
جاء موعد مغادرتنا التأديب . لمح بعضنا - وسط الدهشة ـ دموع الصول «مسعود» ! بكل جبروت هذا الرجل، بدأ مضطربًا، قلقًا، ما بين شعوره بالسعادة لخروجنا من هذا القبر سالمين، وبين شجن للفراق.
ما أغرب هذا الإنسان. وما أعقد مشاعره وأحساسيه!!
عدنا أخيرًا إلى الزملاء في عنابر أكثر اتساعا (١٠) أمتار × 4 أمتار)، الحمامات معقولة إلى حد ما الضحكات تتعالى والعناق يمتد بعمق الجرح، وعمق الكبرياء.
بدأت حفلات السمر المسائية كل ليلة تقريبًا، واكتشفنا فى الزميل محمد عبد السلام موهبة غنائية فريدة وقدرة غير عادية على إلقاء الشعر.
تحول يوم الإثنين الدامي الحزين، إلى قصص لا تخلوا من المفارقات ولا تمنعنا ذكراها الكئيبة من الضحك.
حكى أحمد صديق، وهو أكثرنا مرحًا وخفة ظل إنه أثناء تعذيب وضرب الزملاء في زنزانة (٥) كان أحد الجلادين ويدعى (الرائد عاطف) يسأل كل زميل عن وظيفته فیأتی ردهم:
- مهندس .
- طبيب.
- صحفي.
- عامل.
فتبدأ سلسلة طويلة من الشتائم من هذا الضابط بأفظع الألفاظ على كل المهندسين أو الأطباء أو الصحفيين أو العمال.
وجاء دور أحمد صديق وكان وجهه للحائط ويديه مرفوعتين إلى أعلى فسأله الجلاد.
: وانت بتشتغل ايه يا روح أمك.
أجاب أحمد صديق سريعًا:
: ضابط
فأخذ هذا الجلاد يردد كالأسطوانة القبيحة السباب إلى كل الضباط في هذا البلد، ثم انتبه فجأة إلى ما يقول، ونظر إلى أحمد، فلاحظ أنه يضحك فما كان منه إلا أن اشتاط غضبًا وضاعف الضرب والشتائم لزميلنا أحمد صديق صاحب الضحكة والقفشة في أشد اللحظات قتامة وكآبة.
آن للجسد أن يستريح، وآن للعقل أن يفكر فى أحبائه، وبدت صورة حسام ذلك الطفل الرضيع الذى تركته حتى دون أن أتمكن من توديعة وتقبيله. كيف هو الآن؟
لقد قدر لهذا الطفل الجميل أن يولد وأنا في اليابان، ولم يمهله زوار الفجر أن يكفيه دفء الأب سوى لأيام قليلة، فلم أتأمل مليًا ملامحه . ولم أحتضن بعینی نموه الیومی، تری كيف تبدو الأن حبيبي.
توارادت قرارات النيابة بالإفراج عن الأصدقاء والزملاء يومًا بعد يوم وعندما حان موعدى، كانت الجروح ما زالت ساخنة وكانت النفوس ما زالت حزينة، وظل القلب يدمى، وبقى برغم التجربة وقسوتها، إحساس بالكبرياء والشموخ.
فنحن سماد الأرض، ونبتها، دماؤنا قطرة تجرى في مجرى عميق لنهر . خالد هو نهر النيل.
الجمعة القادمة : نص التحقيقات في أمن الدولة
تعليقات
إرسال تعليق
أترك تعليق