أعادت إلينا جريدة الوفد اليومية صلتنا بالعالم والحياة، فعرفنا أن تحركًا واسعًا قد حدث داخل مصر وخارجها للتضامن معنا و إحراج النظام والحكم.
ففى فرنسا، نظم مئات من أنصار الحزبين الإشتراكي والشيوعي مظاهرات احتجاجية أمام السفارة المصرية تندد بالتعذيب وتطالب بالإفراج عن سجناء الرأي في مصر، وفى إيطاليا حدث شيء مماثل من أنصار الحزب الشيوعي الإيطالي. أما يوغسلافيا فقد جرى إحراج الرئيس المصرى حسنى مبارك أثناء مؤتمر صحفى في ختام زيارته لها بسؤال عن عمليات التعذيب التي تجرى لكتاب ومفكرين ونقابيين في السجون المصرية.
وفي مصر انتفض المحامين الديمقراطيين - وعلى رأسهم أحمد نبيل الهلالي - ليقدموا بلاغات إلى كل الجهات المختصة بشأن عمليات التعذيب الوحشى التي تعرضنا لها.
وتحت هذا الضغط المتعاظم أثمرت هذه الجهود، فلأول مرة منذ ثلاثين عامًا أو يزيد تتحرك نيابة أمن الدولة العليا لتشكيل لجنة منها على أعلى مستوى للتفتيش على سجن أبو زعبل.
فجأة .. في صباح ذلك اليوم، فوجئت بزنزانتي تفتح على غير ميعاد، ويقف على رأسها أربعة أو خمسة من الرجال ببدل أنيقة، ما إن هم أحدهم بدخول الزنزانة حتى هرع خارجها مفزوعا، فالرائحة تزكم الأنوف، والمشهد ثقيل على القلب والضمير. كرر أعضاء النيابة المحاولة فى كل زنزانة، وكان رد فعلهم البسيط والتلقائي هو الهروب والفزع من مجرد الدخول والمعاينة المتأنية.
من خلفهم وقف بظله الكئيب وبدلته الرسمية «العقيد عبد الستار»، تعلو وجهه ابتسامة صفراء، وعلى شفتيه يلحظ المرء تعبيرات أقرب إلى السخرية منها إلى الخجل، وقسمات لم يكن من الصعب على أى إنسان أن يلحظ من رد الفعل المجرد لأعضاء النيابة، وملامح الحزن والاشمئزاز التي ارتسمت بها ملامحهم أن قرارًا بالإفراج قد
أوشك على الصدور، وأن هناك نية لإغلاق ذلك الملف الدامي الحزين بأسرع ما يستطيعون.
يومان بعد الجولة التفتيشية .. وبدأت أولى نسمات الحرية، فأعلنت أول قائمة للإفراج ضمت بعض الإخوة المحامين والصحفيين .. وتوافدت جماعات الأهل و الأصدقاء للزيارة فقد سمحت الأن النيابة بتصاريح زيارة عاجلة.
وكانت من أجمل اللحظات و أصعبها على نفسى تلك التي نودى على إسمى فاليوم زيارة لي.
أمسكت بتصريح الزيارة، ووجدت أسماء الزائرين يتصدرهم أبي وشقيقتي وفاء وزوجتي.
تجمعنا وكنا سبعة في فناء صغير ، أشبه باسطبل خيل، وانتظرنا لحظة التلاقي بالزائرين، ما أصعبها من لحظات .. وما أقساها على القلب المكلوم و الكبرياء المستمد من اعتزاز بقضية أكبر من الأفراد و أعظم من جراحهم.
مرت اللحظات كالدهر، وما أن فتح الباب، حتى اندفع كل زائر يحتضن ما يفتقده وفي ثوان كانت وفاء في أحضاني ودموعها أسبق من كلماتها .. وقبل أن أنطق بكلمة، كان أبي يختطفني من بين أيديها وأيد زوجتى ليحتضنى ويتمتم في حنو.
: عملوا فيك إيه يابني ولاد ( الكلب )
وترقرقت الدموع في عينيه .. فبكيت لأول مرة منذ اعتقالى من عناق دافئ كنت أحتاج إليه وأجد نفسي فيه، وتعلمت ساعتها أن عطاء الأبوة طوال سنوات لا تغنى عن لحظة عناق بين أب أفنى عمره فى أبن يراه معلق بين خيط الموت ورجاء الحياة.
لحظات قليلة، وشرعنا في المسامرة والضحك، وتركت لنفسي العنان للسؤال عن كل ما هو إنساني وخاص بى: عن إبني حسام ذى الثلاثة أشهر من عمره، وعن المرتب الذى توقف، وعن الأستاذ كمال فهمى وكيل الوزارة الوفدى الذي أحبني وبادلته الاحترام بالاحترام والحب بالوفاء.
كان والدى قد بدا عليه الشحوب، وبدت عينيه تعبر عن حالة جزع و ذعر مكتوم، وبرغم أنها لم تكن المرة الأولى التي زارني فيها في سجون النظام والحكم ـ منذ بدأ انشغالي بالعمل السياسي والهم الوطني العام في المرحلة الثانوية عام ١٩٧٤، واستدعائه كل مرة من جانب جهاز أمن الدولة لتهديدى من خلاله ـ فإنها ربما كانت المرة الأكثر قسوة في تاريخي السياسي وتاريخه الإنساني.
فهذه هي المرة الأولى التي نتعرض فيها لتعذيب وحشی، وساهمت بعض صحف المعارضة ـ وفي طليعتها الوفد والأهالي ـ في إبراز ما جرى بصورة أفزعت الأهل و الأصدقاء، ولكنها لعبت دورًا لا يستهان به في وقت المذبحة التي كان قد انتواها زكي بدر وضباطه لنا.
مرت نحو ثلاثين دقيقة وكأنها لحظة، لم نفق منها إلا على صوت «صول» الزيارة منبها إلى إنتهاء وقت الزيارة، تكاسلنا في الفراق واحتضنى أبي ثانية وكأنه يخشى أن لا يرانى مرة أخرى، وانتبانى أحساس عميق بأن هذا الرجل يسرى في دمي بأكثر مما تصورت و شعرت في حياتي كلها.
صحيح أنني تعودت طوال طفولتي وشبابي أن أغادر منزل الأسرة، وأهيم باحثًا عن سلامي النفسى بعيدًا عن نزاعات متكررة، ومشاجرات لا معنى لها، وعناد أم يفوق الاحتمال، بيد أن هناك شيئًا غامضًا حنونًا كان يشدني إلى أبي، قد لا أجد في انشغاله بتدبير أمور حياة سبعة أبناء ما يبرر ذلك الشعور ويفسره .. قد يكون التعاطف مع كفاحه، قد يكون الإعجاب بقوة احتماله، وقد يكون الشفقة من عبء المسئولية وقسوة الحياة.
عدنا إلى زنازين التأديب محملين هذه المرة بأول الوجبات الساخنة والمياه الغازية، وعلب المحفوظات، وتجمع من حولنا المساجين الجنائيين، يتصدرهم ) م «أبو شوشه»، هؤلاء الذين ارتكبوا من الجرائم ما يشيب لها الولدان، بدوا الأن كأطفال يتامى، سيجارة تسعدهم، وشيء من أكلنا الساخن القادم توا تضحكهم وتبكيهم في أن.
أصبح وجودنا في التأديب مصدرًا لسعادة هؤلاء، والجنود والصول «مسعود» وصارت لنا قوة شرائية «سجائر » قادرة على شراء كل شيء و الوصول إلى كل معلومة أو خبر نريده ونرضاه.