JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

-->
أحدث المواضيع
Startseite

عبد الخالق فاروق يواصل أبو زعبل 1989 -4- يا فرج الله


الدقائق في زنازين التأديب تمر علينا كدهر .. فالزمن هنا قد توقف أو يكاد ، والشمس في غيبتها الطويلة عن النظر لا تترك لنا مجالًا لمعرفة كم مضى من ساعات النهار الطويلة .. الثقيلة وكم يبقى لطلوع الشمس من جديد.

والليل الموحش .. مظلم .. يحمل في جوف الظلام أكثر من احتمال للموت، ربما بلدغة عقرب وسط ركام القمامة ، أو ببخة ثعبان من تلك التي تمتلئ بها شقوق الحائط القديم المتهالك للزنازين.

أما جيوش الصراصير التي تتولى مهمة الهجوم الليلى للفراش، وجحافل الناموس بصريرها المزعج، و أزيزها المميت فقد باتت من أبسط الأمور وألفتها النفس واعتادت عيناي على إدارة المعركة ضدهما وسط الظلام الدامس.

لم يبق للتعرف علي الزمن والوقت ، بالنسبة لي، سوى التعلق بذلك الصوت الرخيم الذي يأتى من أقصى نقطة في هذا القفر الموحش بين فترة وأخرى .. إنه أذان الصلاة .. وبذلك الصوت العذب وبإحساس اللحظة تعلقت بالحياة و انتظرت لحظة الفرج. يزيد من وحشة المكان، تلك الحالة من الصمت المطبق طوال ساعات النهار الطويلة .. فبرغم امتلاء الزنازين المجاورة بعدد كبير من المساجين الجنائيين، محشورين ثلاثة أو أربعة أو حتى خمسة أفراد داخل تلك الزنازين الضيقة، فإن الخوف يشرع بأجنحته علي الجميع، وزفرة النفس هنا محسوبة عليهم، والرقابة من المخبرين والجنود والصول «مسعود»، بحيث باتت أمنية كل المساجين هنا هي العودة إلى أقسامهم الجنائية التي هي واحة للانطلاق والحرية بالقياس بقسم التأديب ؟!

الصمت هنا كالموت .. قاتل .. يغلف الحزن بالحزن .. ويعانق العذاب بالعذاب.

أما المساجين السياسين، فإن المهمة الصعبة التي واجهتنا هي كيف نخلق من التخيل حقيقة، وبمعنى أخر كيف نجعل من كل تلك الوقائع والمعطيات القبيحة داخل وخارج الزنزانة شيئًا جميلًا ومقبولا علي النفس، ثم بعدها كيف نتمكن من حصار الذكريات

الجميلة خارج السجن في دائرة النسيان الزوجة .. الأبناء .. الأشقاء .. الآباء.

ثم أخيرًا كيف نصنع علاقة ما مع هؤلاء المساجين الجنائيين توفر قدرًا أكبر من التوازن !

وبهذا نستطيع عبر الوهم .. أو بعض الإرادة .. أن نحتمى من الانهيار النفسي الذي ينتظره ويتمناه الجلادون ونظام الحكم.

فجأة، بدأت إرادة الحياة تتحدى أنين الموت .. وتحولت الزنزانة الكئيبة إلى مرسم فنى هائل ؟ فخيوط وبقع الدم اللزج علي الحائط بدت في نظري الأن بمثابة لوحة سيريالية «لسفادور دالى» أعظم رسامي أسبانيا وأكثرهم تعبيرًا عن ذلك النوع من الفن في عالمنا الحديث.

وفي الجانب الأيسر . يسر من الباب الخشبي الغليظ تساقطت بعض قشور الحائط ، فبرزت ملامح وجه امرأة ، استكملت بأظافري ما تناساه الزمن في اللوحة ، فصففت لها تسريحة شعرها فأصبح لدى بلاتوه أو لوحة تعبيرية لإمرأة علي درجة لا بأس بها من الجمال والرقة !!

وألفت عيناي مع خيوط كل نهار تلك الكلمات الصابرة والآيات القرآنية التي حفرها من سبقونى إلى هذا القبر الأدمى ، وبدا أصحابها كأصدقاء لي أعرفهم منذ زمن نتبادل حديث الصبر والصمود كل صباح.

وعندما يحل المساء بغطائه الكثيف، تنشط قوافل الصراصير والناموس وتهاجم جسدي كما لو كانت قد دربت على هذه المهمة الدامية من قبل إدارة السجن ومخبريها وضباطها.

يوما أو يومان، لم تذق فيهما عيناي النوم أو الراحة، بعدها تعودت عيناي وحذائي علي اصطيادها بأعداد كبيرة.

معركة من الفر والكر، تستمر لعدة ساعات وسط ظلام دامس ومع خيوط النهار يكون الإجهاد والتعب قد أخذ منى مأخذه ، فأذهب بعدها في نوم عميق.

سويعات و استيقظ من نومى القلق .. أنظر حولى، فلا أجد أثرًا لمعركة المساء الطويلة !!

وأعترف، للوهلة الأولى أنتابني إحساس بالفزع .. هل كنت أتخيل ؟ هل أصابني مس من الجنون؟

أبحث حولى مرة .. مرتين .. ثلاثة فلا أجد أثرًا لكل ما فعلت في الليلة الماضية، ، ثم ا اكتشفت بعد قليل أن الزنزانه تحتوى أيضًا علي جيش هائل من «الحانوتية» الأبطال يعملون في انتظام طوال الليل لنقل القتلى والجرحى إلى مخازن أُعدت لذلك .. وأعتقد الأن أن جيش " النمل " هذا مدينا لى بمخزونة الضخم هذا العام.

يستمر الصمت مطبقا علي زنازين التأديب حتي الساعة الرابعة والنصف مساءًا حيث يتسلم خفر الليل القسم من نوبة الصباح .. يذهب الصول «مسعود» بكل جبروته، وبعدها تبدأ حالة من الهرج والمرج داخل الزنازين .. وعادة ما تبدأ السهرة الممتدة حتى منتصف الليل بنداء من صوت جهوری ذی شج

                      : يا فرج الله ..

هكذا يبدا «أبو شوشة» رحلة المساء الطويلة فيخفف عن نفسه وعن زملائه جميعاً.

                   : يا أبو نسمة .. يا جمال يا مرسيدس .. يا عادل .. يا أبو حمادة .. يا شيخ عبد اللطيف، أبو شوشة بيمسى عليك

كان أبو شوشة هو النزيل المجاور لى مباشرة ، نموذج لضحية من ضحايا الفقر و المخدرات وقصته تحتاج وحدها إلى رواية طويلة .. عمره لا يتجاوز الثلاثين بقليل .. ولكن من يراه يتصور أنه يحمل فوق كتفيه خمسين عاما أو يزيد، الجسد مشوه تماما، بفعل تعذيب الضباط و المخبرين أحيانًا، أو تعذيب المعلم الذي عمل لديه أبو شوشة في تجارة الممنوع أحيانًا أخرى، أو تعذيب نفسه بالبشله أحيانًا أخيرة. 

 كان أبو شوشة هو أول الأصدقاء نقرة خفيفة على الحائط المجاور، ويأتى أبو شوشة واضعًا أذنية على الجدار وتعارفنا.

 في كل ليلة كان الحفل السامر الساهر يمتد دون أن يضيف لأحد جديدًا .. إنه المزاح المجرد وإضاعة الوقت.

حان يوم ذكرى الأربعين لشهيد عمال الحديد والصلب ( العامل عبد الحي محمد ) الذي اغتالته قوات أمن النظام أثناء اقتحام المصنع بالحديد والنار .. وقررنا أن نحتفل به علي طريقتنا.

وفي السادسة مساء يوم التاسع من سبتمبر، بدأت إذاعتنا تبث برنامجها بكلمة إفتتاحية للزميل محمود مرتضى، تشرح معنى ما حدث في مصنع الحديد والصلب، ساد الصمت والترقب قسم التأديب الصاخب !!

ثم تبعه الزميل رياض رفعت بقصيدة جميلة للشاعر أحمد فؤاد نجم، فارتفع التصفيق من داخل زنازين الجنائيين، وأخذوا في تهنئة رياض وانهالت مطالبتهم بتكرارها.

وجاء دورى فألقيت قصيدة إدوار الخراط التي ارتجلها عند سماعه نبأ اغتيال شُهدی عطية في سجون ناصر عام ١٩٦١:

مستقتلين

... و لا عمرنا نرمى السلاح من يدنا

مستموتين .. نضحك لأيام الجراح اللي أرتوت

من دمنا

وأحنا كده .. من صنع أهوال النضال.

عد السنين من عمرنا.

وأحنا كده.. نبدر حياتناع الطريق.

ترويها أيام الضنا ..

تطرح هنا . .. لا جلادين . ولا سفاحين

حيغيروا طعم الكفاح من بقنا.

نالت القصيدة إعجاب الحاضرين، و أصبحنا نحن والجنائيين أصدقاء ورفاق محنة، وإن أختلفت الأسباب والمسببات !

انتظمت إذاعتنا عشر ليال متتالية، وأصبح للإذاعة مستمعين متعطشين للاستماع والترديد، وبدأت أسئلتهم تزداد حول إصلاح أحوالهم وأحوال المجتمع.

كان الطفح الإنساني ينتظر ما يفجره وسط عتمة الجريمة التي تكرسها المعاملة القاسية للجلادين في سجون النظام.

مع الأيام تحولت علاقتنا بالصول «مسعود» مسئول التأديب، والضابط (ح) إلى شيء أخر تماما.

كان الحصار النفسي الذي يفرضه الجلادون يقضى - إلى جانب واقع الزنازين البشع ـ بأن تقطع كل صلة لنا بالعالم الخارجى .. فالزيارات ممنوعة .. واتصالنا ببعضنا ممنوع، ومع الأيام تحطم كل هذا، برغم لائحة الممنوعات، الجرائد جاءت إلينا ومن أوسع الأبواب التي لا يتصورها ضباط المباحث والمخبرين، وازدادت شهيتنا للطعام عندما جلسنا معًا وافترشنا الأرض وأكلنا حتى التخمة .. فول السجن تحول إلى شيء أخر تماما، وتجاذبنا الحديث واهتزت جدران «التأديب» بجلجلات ضحكاتنا الجماعية التي تحولت بدورها إلى مايشبه الهيستريا !!

تقاسمنا والجنود لقمة الملح والصبر ... فارتخت العضلات المشدودة وأصبحنا رفاق سجن واحد، تحول التأديب العابس دوما .. الدامي أبدا إلى ما يشبه المسرح الكوميدى، وتعودنا عندما يهرع إلينا أحد الجنود محذرًا من قادم غريب أن نمثل جميعًا دور المحبوسين طوال النهار ، وهكذا اكتشفنا داخل السجن ( سلخانة التعذيب ) طاقة على الإبداع الفنى والتمثيلي.

لم يكن يعذبنا فعلًا سوى ساعات الانتظار الطويلة داخل الزنزانة، وكابوس الانتظار والترقب، وخفف علينا الضابط (ح) بعضًا من مشاكلنا بابتسامة رقيقة وروح مرحة وجريدته اليومية التي باتت أداة من أدوات نقل الأخبار و المعلومات، وعندما نجحت ضغوط المحامين الديمقراطيين واليساريين في إتمام زيارات الأهل و الأقارب، تحول التأديب إلى حفل عرس وزعت فيه المأكولات الساخنة والفاكهة علي الجميع.

NameE-MailNachricht