JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

-->
أحدث المواضيع
Accueil

عبد الخالق فاروق يواصل أبو زعبل 1989.. 2 _ الأثنين الدامي


 استيقظنا في الصباح مبكرًا على صوت صياح وصراخ شديدين بالعنبر .. وصوت الكلاب البوليسية تخترق القضبان الحديدية وتهزها هزا.
بين القلق والترقب تطلعنا إلى المشهد الذى يجرى أمام أعيننا بالدور الثالث، عشرات من جنود الأمن المركزى بعصاهم ودروعهم الحديدية وخوذاتهم السوداء الكئيبة يتراصون أمام الزنازين، يخرج المساجين الجنائيين رافعي اليدى مطاطئى الرأس جاثمى الركبة.. يتراصون وجوههم إلى الحائط، يتمنطق ضباط مباحث السجن. (محمد صلاح و مدحت و حازم وأحمد حمزة وغيرهم) وفي أيديهم العصى ويتحولون كالجنرلات في معركة قذرة وغير متكافئة .. يضربون هذا ويرفسون ذاك، وبعد الانتهاء من تفتيش الزنزانة ومصادرة كل ضروريات الحياة وأواني الطهى يبدأ إدخالهم واحد بعد الآخر وسط صيحات وضربات جنود الأمن المركزى لهم وهكذا في الزنزانة التي تليها.

للوهلة الأولى شدنا المشهد الهمجي.. وبعدها دارت التساؤلات في النفوس . هل هي رسالة تهديد لنا؟ هل هي بروفة لما ينتظرنا ؟

حتى هذه اللحظة لم يكن متصورًا أن يقدم النظام على هذه الخطوة الإجرامية في مواجهتنا، خاصة وأن بيننا من هم مرضى بالقلب والسكر وغيرها.. كما أن بيننا من هم أصحاب إسهامات علمية مرموقة، سُجلت أسماؤهم في دوائر الفكر والبحث العلمي.. ومع كل لحظة كان القلق يزداد.. والنفوس ترتاب، وما هي إلا دقائق حتى اقترب صياح جنود الأمن المركزى من الدور الأرضي الذي نقيم فيه، ثم فجأة وجدناهم أمامنا تمامًا.. متراصين بنفس الطريقة أمام زنزانة (۱) وامتد طابورهم حتى اقتربوا من باب وشباك زنزانة (۲) التي أقيم فيها.

الوجوه عابسة.. والعيون زائغة.. والملامح قاسية كلها تعكس حيرة هؤلاء الجنود وتعاستهم، نظرت إلى عيونهم، كان بعضهم سعيدًا على ما يبدو بالمهمة الجديدة فكثرة العادة تلد إحساس التلذذ بها، وكان بعضهم الآخر منكسرًا حزينًا، ربما بفعل الفطرة الإنسانية التي تأبى تعذيب البشر وإهانتهم.

فيما بعد سألت أحد هؤلاء الجنود. لماذا تضرب المساجين بكل هذه القسوة؟

أجاب ببساطة :

  • : ما أنا لو ماضربتش زى الأوامر ما بتقول.. أنا نفسى حنضرب وأدخل السجن.. وكمان حاخسر دفعتى وحاخرج من التجنيد متأخرًا؟
  • : فتحت الزنزانة (۱) وفجأة تعالى صراخ الرفاق وبدأت طرقات العصى على اللحم الحي .. خرج الزملاء رافعي الأيدى وأجبروا على الوقوف ووجوههم إلى الحائط

وأخذ الضابط ومدير منطقة أبو زعبل (العميد الوكيل) يوجه الشتائم والألفاظ الجارحة ولكمات يديه إلى الرفاق أطباء .. صحفيين .. كتاب .. ومهندسين .. ونقابين وعمال. رأيت الدكتور محمد الحبشى يحاول أن يذكرهم بأنه مريض بالسكر، فازداد ضرب أحد ضباط مباحث السجن له!!

كانت المفاجأة قد أذهلت الجميع.. ودارت الأفكار بين المقاومة حتى الموت أو تمرير العاصفة، خاصة وأن بيننا مرضى كثيرون وكبار السن وأن المقاومة من شأنها سقوط عدد . من الشهداء.

سُحب بعض الرفاق من الزنزانة (۱) وسط الضربات وأستمر تعذيب بقية الرفاق داخل الزنزانة . بعدها أغلقت الزنزانة الأولى وجاء دورنا في زنزانة (۲)، تقدم ضابط مباحث السجن وفي مقدمتهم المجرم محمد صلاح وأشار بيديه لي ولزميلي محمود مرتضى بالخروج من الزنزانة فحفلتنا من نوع خاص كما يقولون أثناء الخروج بدأت ضربات جنود الأمن المركزى ومخبرى المباحث وضباط السجن تنهال على بصورة وحشية وقاسية عصى - لكمات - لطمات - وسط طابور طويل من الجنود، احتضنت نظاراتي الطبية بإحدى يداي وبيدي الأخرى حاولت أن أصنع ساترا فوق رأسى يحميني من قسوة الضربات والعصى وباندفاعي وسط هؤلاء كنت أدفع بجسدى كل من يقترب مني في محاولة يائسة للمقاومة. تعالت شتائمهم وصرخات الضباط وأزداد الضرب فوق رأسى تعثرت قدمای احتضنت أكثر نظارتي .. وانهالت العصى الكهربائية على جسدى ورأسى، وأمسك أربعة من المخبرين والجنود بقدماى وسحلت مسافة عشرة أمتار وأنا شبه عارى الصدر.

من بعيد كانت تأتيني صوت صرخات مجنونة واصطدام العصى بلحم الرفاق فيقشعر الجسد.

كان «عرس الدم» قد انتقل إلى زنزانة (٥) واستقر هناك لفترة طويلة من الزمن.

أوقفنى الضابط في بهو العنبر الكبير وأمر أن أوجه وجهى إلى الحائط وأرفع يدى إلى أعلى، جاءت وقفتي هذه بجوار رفیقی محمود مرتضى وبعد فترة جاءوا بالزميل محمد عبد السلام إلى يميني، وشاءت الأقدار أن تكون وقفتنا هذه إنقاذا لنا من موت محقق. كان كل شئ قد أُعد لتمثيل وتعذيب لثلاثتنا وعدد آخر من الزملاء الذين أُخذوا خارج الزنازين.

 لحظات وكان الصراخ قد تحول إلى شيءٍ مفزع - بشع ـ لا يمكن تصوره ـ جنود وضباط يجرجون أحد الزملاء وسط ضربات مجنونة فوق جسده العارى. وكيل مصلحة السجون بصلعته يفح فيهم كالأفعى

           : فوقوه ابن ( ) بميه وسخة .. أحنا سوف ( ).

 وقال كلمة تعبر عن شذوذ جنسي ثواني وجاء المخبرون والجنود بجرادل المياه المخلوطة ببول البشر والقيت على وجه هذا الزميل الغائب عن الوعي والملقى على الأرض بجوار أقدامنا تمامًا.

اختلست نظرة محاولا أن أتعرف على ذلك الزميل. صفعني الضابط الواقف خلفي مباشرةً، لم أشعر بوقع الضربة، بقدر ما أفزعنى ما أرى - من هذا - أدقق النظر أحاول مرة أخرى يا ألهى إنه الدكتور محمد السيد السعيد.

كان محمد السيد السعيد قد أصابه من الضرب والسحل ما لا يمكن تصوره، الآن لم تعد لإسهاماتك العلمية قيمة في هذا الوطن، وشهادة الدكتوراه التي حصلت عليها يدنسها ذلك الضابط وذاك الجندى الأمى بأقدامه الغليظة، وخبراتك التي منحتها لأجهزة وجهات تنفيذية حساسة، لم يصبح لها اعتبار لدى سلطة غاشمة جاهلة.

   قرأت بعد ذلك بأسابيع لأحد زملاء محمد سعيد في الأهرام هو الدكتور أسامة الغزالي حرب في جريدة الوفد يتحدث فيها عن إساءة معاملة المساجين في السجون

ويطالب الداخلية بضبط النفس !! تمنيت وقتها أن يكون هذا الزميل بيننا حتى يعرف الفارق بين التعذيب البشع وإساءة معاملة المساجين السياسيين!!.

يبدو أن د. محمد السيد سعيد بكل ما ساهم به علميًا لم يكن يتصور أن يجردوه من ملابسه، وينهالوا عليه بهذه الوحشية، وعندما حدث ذلك أصيب بالإغماء الهستيرى كمحاولة نفسية داخلية وغير شعورية للدفاع عن النفس أو حماية النفس.

صرخ محمد سعيد في جلاديه بشجاعة

       : أقتلوني.. أنا بأدرس لأساتذتكم.. أقتلوني لو عندك شجاعة.

ثم ذهب بعدها في نوبة إغماء. وفي كل مرة يتكرر المشهد المؤلم، يأتوا بجردل المياه المختلط بالبول ويلقوه على وجهه.

ارتبك وكيل المصلحة من موقف محمد سعيد، ويبدو أنهم شعروا بأن المسألة سوف تخرج من أيديهم. فأمرنا بالوقوف صفًا واحدًا - اثنى عشر شخص ـ وكبلت أيدينا من الخلف بالقيود الحديدية وأحاط بنا الضباط وجنود الأمن المركزى وعلى وجهوهم ابتسامة غامرة. ونشوة انتصار هائل !!

 كان عرس الدم قد استقر في زنزانة (٥) ونسج بدم الرفاق (كمال خليل ـ محمد شمعة ـ إبراهيم عزام وغيرهم) بلاتوه مأساوى حزين لمجزرة كادت أن تودى بحياة الزميل كمال خليل.

   في كل مرة يُضرب فيها الزملاء في هذه الزنزانة وتغلق عليهم الأبواب، يسمع الضباط صوت ضحكات الزملاء فيفتحون مرة أخرى ويزداد الضرب والتعذيب.

  • عايز ولاد ( ) دول يصرخوا زى النسوان.
  • هكذا جاءت أوامر السفاحين محمد صلاح وعاطف و حازم وغيرهم من بصرخات الضحايا هي سيمفونية الشواذ عبر التاريخ الإنساني.

وسط الضربات المؤلمة والعشوائية أمر الضباط الرفاق بالإنبطاح أرضًا، همس أحد الشاويشية في أذن ضابط برتبة ملازم أول مشيرًا إلى كمال خليل:

  • هو ده يا باشا اللى كان عايز سرير. 

وارتفع صوت هذا الضابط كنعيق البوم عايز سرير يا أبن ( ) عايز سرير  ( ) ؛ ونطق بألفاظ تعبر عن شذوذ جنسي.

وبعدها بدأ قفز هذا الضابط إلى أعلى والهبوط بكل قوته فوق ظهر كمال خليل كان صوت تحطم ضلوع كمال يسمع من الجميع .. وبكاء الرفاق يتعالى من أجله، ستة قفزات رشيقة لهذا السفاح أصابت كمال بكسور في ضلوع الرئة، وتجمع دموى إحتاج بعدها كمال إلى عملية جراحية دقيقة لكى تنقذه من خطر تسمم دموی محقق. 

اقتادونا - نحن الأثنى عشر سياسيا - في طابور تحيط بنا الحراسة وابتسامات الباشوات الأقزام اجتزنا بوابة السجن الصناعي، وسط حفر ممتلئة بالأوحال، تصور بعض الرفاق أننا سوف نلقى حتفنا فيها. سرنا وأقتربنا إلى بوابة الليمان، نظرت إلى يساري فرأيت نافورة فوزى حبشى» وتذكرت ضحكات . عام ۱۹۷۷. اختلفنا السادات ونظامه ولا زلنا نهاجم سياساته ، ولكنى أعترف لم يحدث في عهده مثل هذا الإجرام والهمجية.

 اجتزنا مبنى الليمان وسط نظرات المسجونين الذين تراصوا لرؤية طابور الدم والوحل هذا، واقتربنا إلى قسم ثالث جاء إلينا مأمور الليمان (العقيد حمدى عبد الستار) رجل هادئ، يتكلم فى همس ويقتل في برود.

        : لا أريد أن أسمع ه همس في قسم الزنازين، إنني أحذركم.

وضعنا انفراديًا في قسم ثالث الذي يطلق عليه المساجين والإدارة «القسم التجريبي» فهو درجة بين التأديب والسجن العادى.

 الزنزانة صغيرة وموحشة ( ۲ متر ۱۲ متر) باب حدید صلب وثقب صغير يسمح للحارس برؤية من بالداخل، نافذة صغيرة أعلى الزنزانة أغلقت تماما بلوح معدني مغطى بالقار، وترك بها تسع فتحات صغيرة لإدخال الضوء والهواء. خيوط من الدم على حوائط الزنزانة وكلمات الصبر وآيات قرآنية وشعار الجماعة الإسلامية (مصحف مفتوح وسيف في المنتصف و شمس تشرق بينهما) درجة الحرارة والرطوبة في الزنزانة مرتفعة للغاية وحتى منتصف الليل يتصبب المرء منا عرقًا.

بعد فترة صمت والتقاط الأنفاس، أخذنا في المناداة على بعضنا البعض للاطمئنان واتخاذ موقف جماعي، وكان أكثر ما يشغلنا هي حالة د. محمد السيد سعيد، فأخذنا في المناداة عليه دون مجيب. كان الإعياء قد ناله بصورة كاملة. ما هي إلا دقائق وسمعنا جلبة خارج الزنازين، من ثقب الباب رأيت محمد سعید محمولًا على كتفى شخصين كان أحدهما هو الزميل المحبوس مدحت «زاهد أما الثاني فقد تبين بعد ذلك أنه الصحفى «أسامة سرايا » عضو مجلس نقابة الصحفيين.

   أسعد الحظ محمد السيد سعيد وأسعدنا بزيارة مفاجئة قام بها الأستاذ مكرم محمد أحمد نقيب الصحفيين الجديد بعد أقل من ساعة من عرس الدم» فتحول مسار القضية كلها.

 روع المنظر مكرم محمد أحمد، فأثار التعذيب ما زالت طازجة وحية على جسد ووجه د. محمد السيد السعيد ومدحت الزاهد ومصطفى السعيد الصحفيين المقيدين في سجلات النقابة، والدم ما زال نازفًا منهم. أصبح الموقف صعبًا أمام نقيب الصحفيين، وليس هناك سوى خيارين كلاهما يحمل وجهًا للخسارة والكسب معًا. فإما الإقرار

بالتعذيب والعمل على وقفه وإعلان وجوده بصراحة، مما يزيد من قبح نظام الحكم أمام الرأى العام العالمي، وإما إنكار وجود تعذيب وخيانة الضمير الصحفي والإنساني.

أختار مكرم محمد أحمد موقفًا أمينًا ومشرفًا، وقال الزملاء الصحفيون الذين حضروا المشهد العاصف بين النقيب ومأمور سجن أبو زعبل أن مكرم محمد أحمد قد أعلن احتجاجه، وأن ما يجرى هو عودة للعصر المملوكي وأنه سيرفع الأمر إلى رئيس الجمهورية.

في نفس الوقت كانت أخبار التعذيب قد انتشرت وسط الأهل وتكتل المحامين الشرفاء والديمقراطيين واليساريين؛ فاشتعل الموقف أكثر، وتقدم هؤلاء ببلاغ إلى النائب العام بوقائع التعذيب والأشخاص الذين وقع عليهم التعذيب، تحركت لجنة الدفاع عن حقوق الإنسان المصرى بشكل دشن وجودها الشعبي على خريطة العمل الديمقراطي في مصر.

وكان لصحيفة «الوفد» دور لا ينسى محفور في سجلات التاريخ الديمقراطي، ولم يحفل (مجدى حلمى وزملاؤه في الجريدة بتهديد رجال المباحث لهم واستمرت تغطيتهم اليومية الدقيقة لوقائع التعذيب بصورة رائعة.

يومان مضيا قبل أن تستدعينا النيابة لسماع أقوالنا في وقائع التعذيب وبعدها بدأت المرحلة الثانية من التعذيب.

NomE-mailMessage