(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً)- سورة البقرة.
ونحن نعيش بهجة مباريات كأس العالم هذه الأيام بأعصابٍ هادئةٍ، حيث لا ناقة لنا فيها ولا فريق .. فلنتذكر أن هناك مصرياتٍ ومصريين .. لا هم إرهابيون ولا خونة .. لعلهم أفضل ِمِنَّا علماً واستقامةً ووطنيةً وانتماءً وشجاعةً (بل وأكثر حباً لكرة القدم!) .. معزولون عن الدنيا تماماً .. فى سجونٍ فوق أرض هذا الوطن (أو تحتها) لا يعرفون أصلاً أن هناك بطولةً مُقامةً ومبارياتٍ تُلعب .. بل لا يُمَّيِزون الأيام عن بعضها ويجتهدون لتحديدها بطريقة الشيخ جلال فى فيلم (أمير الانتقام).
فيلم (أمير الانتقام) هو الأقدم فى أفلامٍ مصريةٍ ثلاثةٍ اقتُبِسَت عن قصة ألكسندر دوماس الشهيرة (الكونت دى مونت كريستو): أمير الانتقام، وأمير الدهاء، ودائرة الانتقام .. فى أَقدمها (أمير الانتقام)، طَلَبَ بدران (سراج منير) رئيسُ الشرطة من مساعدِه عزلَ السجين السياسي المغدور حسن الهلالى (أنور وجدى) عن باقى المساجين، فأجابه نَصَّاً (لا يوجد هنا حَبس انفرادي) فقال له (ارموه فى معتقل المغول) حيث الحبس الانفرادى والعزل الكامل عن الدنيا وعن الأمل .. لسنا فى مجال حَكْىِ القصة ولكن استوقفتني فرحةُ المعتقل السياسي الشيخ جلال (حسين رياض) عندما رأى وجه جاره حسن الهلالى : (ياه .. أول مرة من ٩ سنوات أرى وجه إنسانٍ غير وجه السجان وأشوف عينين خالية من القسوة!).
تَذَّكَرتُ حسن الهلالى والشيخ جلال يومَ الاثنين ١٨ أكتوبر ٢٠٢١ عندما تم ترحيلى خطأً إلى محكمة التجمع حيثُ يُحاكَم علاء وباقر وأكسجين بدلاً من محكمة مدينة نصر حيث تُنظر قضيتى الرابعة .. فُوجِئتُ فى سيارة الترحيلات بوجود كلٍ من المحامى/ محمد الباقر واليوتيوبر الشاب/ محمد أكسيجين اللذيْن ما أن عَلِمَا أننى لستُ محبوسا انفرادياً فى سجن طرة حتى سألانى بلهفةٍ أن أقول لهما أى أخبارٍ مما يحدث فى الدنيا (مهما تصورتُها تافهة) حيث إنهما فى سجن شديد الحراسة (العقرب) معزولان فعلاً عن العالم وعن بعضهما البعض، فاجتهدتُ على مدى ٤٠ دقيقة هى زمن الرحلة فى الحَكْى المتواصل عن أى شئٍ .. أى شئٍ بمعنى الكلمة وهما فى قمة السعادة بهذا الأى شئ .. إلى أن وصلنا إلى المحكمة حيث كان علاء عبد الفتاح قد سبقنا وحالُه لا يقل بؤساً عن زميليه.
كنتُ محظوظاً عنهم إذ كان مسموحاً لى فى الثلاث سنوات الأولى بشراء الأهرام والأخبار والجمهورية (فقط) فكنتُ أتجرعها كلمةً كلمة، على أمل أن أقرأ شيئاً بين السطور، أو أقرأ مقالاً لأحد الكُتَّاب المحترمين يعالج آثار مَن هم غير ذلك .. وقد انتهى هذا الوضع منذ بداية العام الحالى، حيث مُنِعتْ جميع الجرائد عن جميع المعتقلين السياسيين فى كافة سجون مصر .. مسموحٌ بها للجنائيين فقط (!).
فى لقاءٍ جمعنى بالصديق الدكتور/ عبد المنعم أبو الفتوح فى منزله قبيل اعتقاله بأيامٍ سنة ٢٠١٨، قال لى (ما يحدث الآن لم يحدث من قبل .. هناك أُناسٌ محبوسون انفرادياً منذ خمس سنوات، بعضهم مختلفون معى .. عارف يعنى إيه حبس انفرادي ٥ سنوات؟ يعنى اللى مش مجنون يتجنن) .. بعد أسابيع قليلةٍ سيكمل عبد المنعم أبو الفتوح خمس سنواتٍ فى الحبس الانفرادى الذى أَشفَقَ على خصومه منه، ومن المفترض أن يُكملها خمس عشرة سنةً وفقاً للحكم الصادر مؤخراً !!!.
ورغم ذلك فهو أقل سوءاً من آخرين محبوسين انفرادياً ومحرومين مما (يتمتع!) به من زيارةٍ زجاجيةٍ خاطفةٍ على فتراتٍ متباعدة .. مصريين يمضون سنينهم (التى لا يعرفون عددها) على أرض زنزانةٍ رطبة .. تتشابه أيامهم .. لا يَرَوْن من الدنيا غير وجه سجانهم عند إدخال الطعام .. دَعْكَ من الدنيا، هم لا يعرفون شيئاً عن أقرب الناس إليهم .. الأب والأم والزوجة والأبناء .. من عاش ومن مات ومن مرض ومن تفَّوَق ومن فشل ومن تزوج؟ .. هذا عن السجين .. وفى المقابل لا يعلم عنه أهلُه شيئاً .. أَتَعجَّبُ ممن ينتظر أن تحل البركةُ علينا بعد ذلك (!).
ملحوظة: فى نهاية الفيلم، وبعد ١٥ سنة فى معتقل المغول، زالَ متولى وجعفر وشاهين وبدران .. وعاش حسن الهلالى.
تعليقات
إرسال تعليق
أترك تعليق