السفير معصوم مرزوق يكتب : جنة الدبلوماسية وجحيمها !


بلغ عدد أصوات ضد قرار الجمعية العامة بتعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان 24 دولة  ، بينما امتنعت 58 دولة عن التصويت. 

وقد تم حساب نسبة  الثلثين المطلوبة لتمرير القرار  بين الاصوات المؤيدة والمعارضة فقط ، ولم تحسب الأصوات الممتنعة أو التي لم تحضر الجلسة . 

قرار تعليق العضوية ، هو الثاني في تاريخ الأمم المتحدة بعد قرار مشابه حول ليبيا في 2011.

التحليل السياسي  لنسب التصويت ( وهو ما ياخذ إجمالي أنماط التصويت في الاعتبار ) ، يشير إلي أن التحالف الغربي يفقد تدريجيا التعاطف الدولي ، وخاصة في دول العالم الثالث ، وأن هناك خريطة تتشكل بالفعل لاصطفافات جديدة في ظل جنون حرب إقتصادية يتأثر بها العالم الثالث بشكل أشد .

العالم يري بوضوح إزدواجية المعايير ، والمثال الفلسطيني يقفز إلي قمة القائمة علي الفور .

ومن ناحية أخري ، فهذا تطور خطير ، قد يكون بداية لتفتيت ما تبقي من النظام الدولي الذي تشكل بعد الحرب العالمية الثانية ، وبما يشبه تفتت عصبة الأمم التي تشكلت بعد انتهاء الحرب العالمية الأولي .

لقد طالب بعض المسئولين في أوكرانيا حرمان روسيا من وضعها ضمن الخمس الكبار في مجلس الأمن ، بينما إزدادت جرأة الكتاب والفقهاء الذين طالبوا بإصلاح الأمم المتحدة وخاصة إلغاء حق الفيتو من مجلس الأمن ، وإخضاع قراراته لرقابة قضائية عن طريق تعديل النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية ( وكنت قد نشرت دراسة كاملة في بداية تسعينات القرن الماضي تحت عنوان :" لزوم ما لا يلزم في الحالة العراقية ") ..

ولا شك أن الولايات المتحدة الأمريكية سوف تمارس كالمعتاد ضغوطها علي الدول التي سوف تري أنها خرجت عن طاعتها ( لي أيضا كتاب حول ذلك صدر تحت عنوان " صكوك الغفران الأمريكية " )، ولعل المشاكل التي يواجهها عمران خان حاليا في باكستان لا تبتعد عن ذلك ، حيث تضغط واشنطن باستخدام أدواتها في الباكستان وخاصة جنرالات الجيش الذين يحتفظون بعلاقات خاصة مع البنتاجون. 

أي أن أجواء الحرب الباردة تزحف مرة أخري إلي سماء العلاقات الدولية ، مع بعض الاختلافات الجوهرية في توازن القوي ، مع ملاحظة أن الكتلة الحرجة تنتقل من أوروبا رغم ما يحدث علي حدودها الشرقية الآن ، إلي شرق آسيا ، حيث تبرز رؤوس واضحة خلف موسكو في بكين ونيودلهي وإسلام اباد وبيونج يانج ، في مواجهة غرب تقوده أمريكا وألمانيا ، وبين الكتلتين وحدات قلقة تدور حائرة  كي تستقر علي قطب ، ويدور الصراع أساسا حول الموارد والأسواق .

وهذا النوع من التجاذب قد يكون " جنة الدبلوماسية " بما يتيحه من مساحات للمناورة والدوران ، ومحاولة تحويل التحديات إلي فرص لصالح الشعوب ، ولكنه أيضا قد يتحول إلي جحيم دبلوماسي إذا ضاقت المساحات ، وصارت الخيارات حدية ، " إما معنا ام ضدنا " ، وهو الوضع المثالي لأنشطة أجهزة المخابرات وفرق الإغتيال الاقتصادي في ترتيب الانقلابات ، وانتهاب ثروات الغافلين .

إن ذلك يستدعي سرعة قراءة التطور الحادث ، ومحاولة توسيع المجال أمام دبلوماسية نشطة ، تشبه ما قامت به دول إعلان باندونج التي أتاحت مساحة معقولة لكتلة عدم الانحياز في الخمسينات ، وكان لمصر فيها نصيب بنائي كبير إلي جانب الهند ويوغسلافيا واندونيسيا ، رغم تهديد وزير خارجية أمريكا فوستر دالاس بأن      " الحياد هو موقف غير أخلاقي " !.

وأخشي  أنها تبدو بالنسبة للبعض مثل " الكوميديا الإلهية " لدانتي ، دون وجود الدليل " فرجيل " ، فهم تائهون لا يعرفون إذا كانت خطواتهم تقودهم إلي جهنم ( مثل أولئك الذين فقدوا القدرة علي التفكير والإدراك والفهم) ، أو إلي الجنة ( لمن أختاروا الحكمة واستخدام العقل ) ، ولذلك فإنهم يتخبطون .

قد تخرج أوكرانيا في صورة المنتصر قريبا ، دون أن تبدو روسيا منهزمة ، بينما تخسر دول أخري في العالم سياسيا واقتصاديا لمجرد أنها استسلمت لحالة من التيه أعجزتها عن إتخاذ القرار المناسب في التوقيت المناسب.

تعليقات