فبعد أن كان يلهث - ولا يجب أن لا ننسى صهيونيته عند أي تحليل - إلى مجرد وقف إطلاق النار ، و أبداء تفهما لأي مطالب روسية يمكن أن تطرح على مائدة المفاوضات - ما يعني تلميحا بتفهم حقائق ومتطلبات الأمن القومي الروسي ، والتي كانت سببا في الغزو الروسي لأوكرانيا إبتداء ، وكذا الإقرار بما صار واقعا الآن على الأرض الأوكرانية بالنسبة للقرم وغيرها -وبعد أن حققت المقاومة الأوكرانية تقدما ، و ألحقت بعد الخسائر بالجيش الروسي ، وأجبرت بعض وحداته عن التراجع عن محيط العاصمة كييف ، وبفضل التدخل الغربي ، أو بالأحرى تدخل الناتو الخفي ، والغير مباشر ، والغير معلن في تلك الحرب ، فضلا عن التحاق مئات المرتزقة كمتطوعين للأنضمام للقوات الأوكرانية ، خرج زيلينسكي بالأمس فقط ليدلي بتصريح غاية في الاستفزاز لبوتين ، أو لروسيا بصفة عامة ، وربما يهدف من وراءه استهداف و استدراج لروسيا لفخ ثان - أما الفخ الأول ، و الذي ربما قد تبينت أبعاده في وقت متأخر نسبيا ، قد تمثل في إغراء القوات الروسية بدخول العاصمة كييف ، وذلك من خلال قصف أحد الجسور الرئيسية من قبل القوات الأوكرانية ، ما يعطي الانطباع للروس بأن هذا كل ما لدي القوات الأوكرانية ، وهو فقط عرقلة تقدم الروس ، وفي ذات الوقت فرض مسارات أخرى لتقدم القوات الروسية نحو العاصمة كييف ، وحيث كانت الكمائن ، والطائرات التركية المسيرة البيرقدار في انتظارهم لضرب وقطع خطوط الإمداد ، ما ألحق خسائر جسيمة بالفعل بالجيش الروسي ، و من هنا يتبين لنا الدور الذكي التي تلعبه تركيا بالفعل من غير أن تخسر أي طرف من أطراف النزاع ، وفي ذات الوقت تحافظ على مصالحها ، وحيث لعبت دور الوسيط أيضا ، واستضافت على أراضيها وزيري خارجية كل من روسيا و أوكرانيا - وكان الفخ الثاني إذن - والذي لم يقع فيه الروس حتى الآن ، و أرجو أن ينتبهوا لذلك - هو استفزاز بوتين شخصيا من قبل زيلينسكي ، حتى يلجأ الأول إلى استخدام أي من الأسلحة المحرمة دوليا - كالبيلوجية أو الكيميائية أو حتى النووية - فيتدخل الناتو حينئذ في هذا الصراع ، وبعد أن هدد صراحة و على لسان أمينه العام ينس ستولتنبرج بالتدخل في هذا الصراع إذا استخدم الروس أي من أسلحة الدمار الشامل والمحرمة دوليا .
ويجب أن نلاحظ هنا أن هذا هو عين ما تمناه و توسل لتحقيقه زيلينسكي ، ومنذ إندلاع المعارك بين روسيا و أوكرانيا ، وهو التدخل في هذا الصراع لصالح أوكرانيا . بل أن من أسباب هذا الصراع أساسا هو الطلب الذي تقدم به زيلينسكي لحلف الناتو و الاتحاد الأوربي لانضمام أوكرانيا إلى كل منهما .
أما تصريح زيلينسكي المستفز فكان دعوته لبوتين ، وعلى الهواء مباشرة ، والذي قال فيه ؛ ما مفاده : " على موسكو أن ترد على الانتكاسات التي واجهتها في أوكرانيا . و أناشد الرئيس بوتين للجلوس معا للتفاوض . ولكن على أساس وحدة كافة الأراضي الأوكرانية " ..!
ويفهم من هذه الكلمة انها أولا ليست كلمة زيلنسكي ، ولكنها كلمة التحالف الغربي ، أو تحديدا بوريس جونسون رئيس وزراء بريطانيا عن حزب المحافظين ، وثانيا أن زيلينسكي والغرب عموما يحاولون أن "يشخصنوا" الموضوع ويجعلونه متعلق فقط بشخص بوتين وليس عموم روسيا و الحفاظ على أمنها القومي ، لدرجة إننا نسمع عن بوتين من بايدن كما سمعنا من ترامب عن بشار الأسد بأنه حيوان و مجرم حرب ، وغير ذلك ، ومع ذلك فلا يزال بشار بالسلطة حتى بعد أن استخدم السلاح الكيماوي ضد شعبه ، و ذلك على الرغم من التحذير المسبق للأسد من استخدامه من قبل أوباما ، و انه بمثابة خط أحمر ، و أن استخدامه يعني تدخل الولايات المتحدة التلقائي لإسقاط الأسد و نظامه ، وغير ذلك مما لم يتم الوفاء به وتحقيقه على أرض الواقع . فحتى اللحظة إذن نسمع عن الديكتاتور الفاسد بوتين ويجب الانقلاب عليه أو حتى اغتياله ..!
لكن الملفت ، والذي يحمل أكثر من معنى ومغزى ، هو زيارة بايدن لبولندا ، والتي كانت الحليف الرئيسي للإتحاد السوفيتي السابق ، وحيث أن الحلف المنافس أو المناظر لحلف الناتو قد اتخذ اسم عاصمتها وارسو ، وحيث صار للولايات المتحدة قاعدة عسكرية كبيرة في بولندا بعد أن أصبحت عضوا في كل من الناتو الاتحاد الأوربي ..!
الرسالة الاستفزازية الثانية لبوتين جائت من بايدن إذن وكأنها تقول له ؛ " إننا صرنا على مقربة منك الآن ، وعلى حدودك ، فإما أن تخضع لنا بكامل إرادتك ، أو سوف نقوم بأنفسنا بتفكيك الاتحاد الروسي ذاته ، كما فككنا الاتحاد السوفيتي السابق .."
علما بأن روسيا كان - ولا يزال - ينظر إليها باعتبارها دولة من دول العالم الثالث . وخاصة من كبار المفكرين السياسيين المشهود لهم بالتجرد و النزاهة الفكرية والأكاديمية كنعومي تشومسكي مثلا . كما كانت روسيا ذاتها ، وحتى الحرب العالمية الثانية محط أطماع جل الدول الغربية تقريبا ، باعتبارها مصدرا رخيصا وغنيا بالطاقة والثروة المعدنية ، والتي كانت تريد أن تحصل عليها جل النظم الاستعمارية السابقة مجانا ، و بدون مقابل ، وما قصة تخلي ، أو بيع الامبراطور الروسي الأسبق إلكسندر الثاني - وللمفارقة فإن أحدث الصواريخ الروسية البلاستية الاستراتيجية ، والتي يمكنها حمل رؤوس غير تقليدية باسم اسكندر - لولاية ألاسكا عام 1867 ، للولايات المتحدة الأمريكية عنا ببعيد ، وحيث كان يخشى أن تستولى عليها منه بريطانيا ، والتي كانت متواجدة في كندا ، و حيث كانت تحتل القرم أيضا في ذات الوقت ، وكانت الحرب الدائرة بين الإمبراطوريتين ؛ الروسية والبريطانية ، قد كلفت الأولى الكثير و ألجأتها تقريبا إلى حافة الإفلاس ..!
ومع ذلك فالتاريخ لا يعيد نفسه ؛ وينبغي على كل عاقل أن يسأل نفسه : " ماذا لو اضطرت روسيا لاستخدام السلاح النووي الفتاك ، والبعيد المدى ، إذا اشتد الخناق والحصار ، و كذا المقاطعة الاقتصادية لها أكثر من ذلك ، كملاذ أخير ..؟!"
تعليقات
إرسال تعليق
أترك تعليق