د. أشرف الصباغ يكتب من روسيا : المشهد الآن كالآتي


القوات الروسية تحارب في أوكرانيا. والرئيس الروسي فلاديمير بوتين قرر أن تسدد الدول الغربية "غير الصديقة" التي تستورد الغاز الروسي مدفوعاتها بالروبل الروسي، وعليها أن تكسر حظر تعاملاتها مع البنك المركزي الروسي لكي توفر لنفسها الروبل من أجل شراء الغاز. 

أيضا، أكد نائب رئيس مجلس الأمن الروسي دميتري مدفيديف أن ظاهرة العالم أحادي القطب قد ولّت، وأن الأمريكيين لم يعودوا سادة للعالم.وأشار إلى أن "أوروبا لن يكون بمقدورها رفض الغاز الروسي".

الغرب بمكوناته الثلاثة (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف الناتو) عقد 3 قمم لحلف الناتو ولمجلس أوروبا ولمجموعة الدول السبع الصناعية الكبار. وفي الوقت نفسه أعلن الرئيس الأمريكي أن الغرب الآن موحد على عكس كل التوقعات بانفراط عقده، وبعكس ما أراده البعض من دق الأسافين بين مكوناته (سواء الدول أو الهياكب والبنى). 

الدول الغربية ليست مختلفة على وقف استيراد الغاز والنفط الروسيين، ولكن هناك تباينات بشأن الآليات والتوقيتات. بمعنى أن هناك دول أوقفت فعلا، وهناك دول أخرى ستوقف تدريجيا. 

روسيا تؤكد أنها المنتصرة، وأنها كسرت أنف الولايات المتحدة ومرغت رأسها في التراب. وهناك محللون وصلوا إلى أن الدولار سينهار قريبا، وأن كل الهياكل الغربية ستتفكك وتتلاشى، وسيصعد نجم روسيا والصين. 

الغرب بمكوناته الثلاثة يؤكد طوال الوقت أنه لن ينخرط في مواجهة عسكرية مباشرة مع روسيا في أوكرانيا، ولكن الأمور ستتغير في حال اعتداء روسيا على أي دولة من دول حلف الناتو. البعض يرى أن هذا الموقف هو موقف ضعف وهزيمة للغرب، وأن نجم أمريكا وأوروبا يخفت. بل ويرى البعض أن الغرب غرر بأوكرانيا ونصب عليها واستغلها ولم يحميها، بل تركها لقمة سائغة في فم روسيا. 

روسيا غزت أوكرانيا، وقواتها النظامية متفوقة بالفعل، بدليل أنها موجودة على أراضي أوكرانيا وليس العكس. بل نجحت روسيا في ضم القرم، وفصل مدينتين والاعتراف باستقلالهما، وتقوم بإطلاق صواريخ مجنحة على أي هدف تريده، وتسيطر على محطتين نوويتين، وبقى لها فقط ماريوبول وخيرسون وأوديسا لتفرض سيطرتها الكاملة على بحر آزوف والبحر الأسود وتعزل أوكرانيا تماما عن المياه. هذا هو الوضع على الأرض، بعيدا عن التمنيات وتصوير الرغبات والأحلام على أنها هي الواقع. 

الغرب بمكوناته متحد فعلا، بعيدا عن الحملات الإعلامية والدعائية والبروباجندا والتحليلات السطحية التي تصور رغبات وانحيازات أصحابها. وهذا الغرب يقوم بإمداد أوكرانيا بأسلحة كثيرة، وأموال ضخمة. وربما يكون هناك ما لا نعرفه، لأن أوكرانيا أغلقت على نفسها الابواب طوال 8 سنوات، ولا نعرف ماذا جرى لقواتها المسلحة وقطاعاتها القومية والوطنية ومدى تدريبات بعض القطاعات التي يمكن أن تنطلق في عملية "مقاومة" عسكرية طويلة وبتكتيكات مختلفة عن تكتكيات القوات النظامية. 

التصريحات الروسية فيها جزء عاطفي، وجزء حماسي، وجزء يستدعي الماضي ويخاطب الأصدقاء بالوقوف إلى جوار روسيا القيصرية وروسيا السوفيتية التي طالما وقفت إلى جوار الكثير من الشعوب. كما أن هذه التصريحات تكون غير دقيقة أحيانا وتتعمد الإثارة والتضليل، وتنطلق أحيانا من الكيد والانتقام. والتصريحات ليس معناها أن ما جاء فيها قد أصبح أمرا واقعا. ولكن عادة يتم تناولها من بعض الإعلاميين أو المحللين على أنها أمر واقع وحدثت فعلا، وأن هناك تفوقا جبارا، وأن النظام العالمي سقط أو قاب قوسين أو أدنى من السقوط المروع. 

روسيا لم تهزم في أوكرانيا، لكنها لم تحقق أي انتصارات أيضا حتى الآن. ولم ينفذ لها أي طرف أيا من شروطها الخمسة بالنسبة لأوكرانيا، ولا أيا من ضماناتها الأمنية التي طلبتها. ولكن قواتها موجودة على أراضي دولة أخرى وهناك عمليات قتالية مروعة تدور في العديد من المدن. 

أوكرانيا لم تنتصر. وهي أيضا غير منتصرة حتى الآن، مهما تحدث البعض بحماسة وتعاطف أو استخدم البعض المجازات والعنتريات. فهي دولة محتلة وخرج منها لاجئون ونازحون ومشردون، وشعبها يكاد يتوزع على كل دول أوروبا. 

من الصعب أن نتصور أن القوات الروسية يمكن أن توقف الحرب أو تغادر أوكرانيا من دون أن تحقق على الأقل شروطها الخمسة التي أعلنتها. وأنا أقول على الأقل، لأن هناك أهدافا أخرى غير الشروط الخمسة المعلنة. ومن المستحيل أن نتصور أيضا أن تعترف كييف بأن القرم أراضي روسية، أو تعترف بانفصال دونيتسك ولوجانسك. وبالتالي، نحن هناك أمام معادلة صفرية مرعبة، بينما القتال والقصف والتهجير والنزوح باتت من طبائع الأمور. 

روسيا تعاني بشدة من جراء العقوبات المرعبة التي أسفرت عمليا وخلال أقل من أسبوع على عزلها بشكل شبه تام عن العالم. العقوبات تؤثر بشدة على الداخل الروسي. ومن المتوقع أن تؤثر لسنوات طويلة مقبلة، حتى إذا تم رفعها مرة واحدة، وهذا مستبعد، أو تم رفعها تدريجيا (بفعل معجزة أو تفاهم أو تسوية). كما أن الغرب يعاني أيضا من جراء العقوبات التي فرضها. ولكن الغرب لديه مكوناته وهياكله الأكثر تقدما وتماسكا من علاقات روسيا، ولديه شبكة علاقاته ومصالحه الممتدة والمتشابكة في كل أنحاء الأرض، على عكس علاقات روسيا المحدودة من جهة، والتي تعاني من قصور في بعض المسارات من جهة أخرى. بمعنى أن علاقات روسيا مع الدول الأخرى، مثل الصين وسوريا والهند وفنزويلا وإيران وحماس والحوثيين وحزب الله، ليست تلك العلاقات الشبيهة بعلاقات الهياكل والبنى الغربية. 

الغرب يدلي بتصريحات، ولديه القدرة والإمكانيات على تنفيذها وتحقيقها. ولديه المرونة الكافية والإمكانيات والطاقات لتبديل الخطط. أما روسيا فهي فعلا محاصرة، وأمام أمر واقع. وهذا الأمر الواقع يملي عليها عدم الانسحاب من أوكرانيا، كما يملي عليها أيضا عدم التوقف عن عملياتها العسكرية، سواء فصلت شرق أوكرانيا أو استولت على كييف وواصلت السير إلى غرب أوكرانيا حتى الحدود البولندية التي هي حدود حلف الناتو. وبالتالي، فبمجرد تحرك روسيا نحو الغرب ستبدأ المعارك الحقيقية على الأرض ووجها لوجه. والغرب يضحي بالغالي والثمين من أجل وضع كل المعوقات الممكنة أمام القوات الروسية من دون أن ينخرط معها في صدام مباشر. 

من المتوقع ألا تنتهي الأمور الآن أو بعد أسابيع. المعادلة الصفرية مرعبة ومغرية بمواصلة "المغامرات". روسيا تمسك بموارد الطاقة، والغرب يجهز نفسه للاستغناء عن هذه الموارد. وروسيا متواجدة عسكريا وقتاليا في أوكرانيا، والغرب يسلح أوكرانيا ويقدم لها الأموال، ويواصل استفزاز موسكو، ويقوم بتأسيس أمر واقع يعطي موسكو انطباعا بأن الأبواب مفتوحة أمامها حتى حدود حلف الناتو، لكنه من جهة أخرى يؤسس لأمر واقع مضاد تماما، ألا وهو أن روسيا باتت غير قادرة اقتصاديا وأنها لا تستطيع الوفاء بالتزاماتها، وأنها غير جديرة بالتواجد في مؤسسات ومنظمات دولية... أي ببساطة يجري دفع روسيا إلى ذلك المربع الرمادي الخانق الذي تبدو فيه وكأنها أصبحت "عالة" ليس فقط على المجتمع الدولي، بل على حلفائها وأنصاف حلفائها، خاصة وأن الغرب متفوق من حيث مساحات الوجود والنفوذ. ونحن هنا نتحدث وفق الأمر الواقع، وليس انطلاقا من تحليلات البعض بانحياز دول خليجية إلى روسيا، او عداء دول خليجية لأمريكا وأوروبا. كل هذه التكهنات والتوقعات التي تنطوي على الآمال والرغبات والانحيازات لا مجال لها في التحليل السياسي، لأن دول الخليج وشمال أفريقيا حتى الآن لم تعلن عن مواقف واضحة، ولم تتخذ خطوات مادية ملموسة على أرض الواقع لدعم روسيا ومساندتها. وفي كل الأحوال، وكما قلنا في البداية، فإن التصريحات وإعلان المواقف لا يمكنها أن تكون بديلا للواقع المادي الملموس على الأرض... 

على الرغم من هذه المشهد التشاؤمي بامتياز، يبقى الأمل في أن تجد الأطراف المتنازعة لغة حوار، وإمكانية على بناء جدول أعمال، وتتفق على بنود محددة لمناقشتها. وأن تمنح بعضها البعض فرصة للحفاظ على ماء الوجه، وتتفادي تركيع بعضها البعض، لأن العكس، سوف يقود إلى ما نخاف منه ونخشاه جميعا... 

أما دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فحالتها يرثى لها، وعليها أن تنتبه لنفسها ولمصالحها، وتقلع عن العواطف والحماسيات، وتبدأ بالتفكير البراجماتي تماما انطلاقا من مصالحها، ومن أجل مصالحها ومصالح شعوبها. ففي كل الأحوال، كل الحروب والصراعات والمواجهات تنتهي بالتفاوض وفقا لما يملكه كل طرف من أوراق ومكاسب. ولكن الضعفاء والجهلة والحمقى يبقون كما هم في انتظار أسياد جدد وانحيازات عاطفية وحماسية جديدة...

تعليقات