محمود الشيوي يكتب : صراع ثلاث دول في المحروسة..!! (1)


الحلقة الاولي

ونعود المغارة.. ولكن ليست مغارة ماسبيرو التي بات أهلها عرايا في مالطه بعد أن اشتروا الترام وضاعت تحويشة العمر.. العمر الذي سرق منهم وتحولت أحلامهم لكوابيس في انتظار الخلاص.. والخلاص الذي اقصده هو قرار الرحمة كما يقول الأطباء عندما يستعصي الشفاء ويصبح الموت رحمة..وقرار الخلاص لايزال في المطبخ ولا أحد يعلم هل سيكون مصير المبنى الذي يعد علامة من سمات مصر في العصر الحديث مثل الجراج.. أم أن حصيلته ستكفي ماليا ليكون الخلاص وحينها يقبل الغرماء القسمة مهما كانت قاسية..؟!

على أي حال ننتقل إلى المغارة الأم.. المغارة الكبيرة التي لم تنضب يوما ولم يشبع كل من اكتشف كلمة السر الخاصة بها.. فهي لها اكثر من كلمة سر ولكن أهمها وأكثرها رواجا"الوطنية" فبمجرد انك تغنيت بكلمة السر وطبعتها وشما على جبهتك وكتفك وصدرك وسيارتك وشرفة منزلك فستكون من المحظوظين ولكن بدرجات متفاوتة، فليس كل من يتغنوا بكلمة السر لهم نفس القدر من الحظ والغنيمة..

ولو نظرت إلى خريطة المغارة الاقتصادية بدقة من أعلى ربما تضع يدك على أمور كثيرة هي محل علامات الاستفهام المتوارثة بلا إجابة.. ولا اقصد بالخريطة الاقتصادية الثروة المعدنية أو الفوسفات والرخام والزراعة ومنجم السكري ونحو ٣٠٠٠كم سواحل على بحرين ونزرع السمك.. اقصد الخريطة الشمولية للمحروسة.. فهي مقسمة ٣ أقسام أساسية.. ٣ أقسام اقتصادية واجتماعية أيضا..وتستطيع القول لو تعمقت في هذة الخريطة أن المحروسة عبارة عن ثلاث دول في حالة تنازع عنيف.. نعم.. لقد كان هذا التنازع رحيم في البداية و"خجول" حتى اشتد واصبح صراعا علنيا بعدما انكشفت كل أسباب سريته..والخريطة إذا ما تناولناها بشكل علمي أو اكاديمي لابد أن نحدد الزمان الذي تشكلت فيه.. ونحن لسنا بصدد أن نعود لفترة محمد علي باشا والنهضة الحديثة أو حتى لمرحلة الجنية المصري المحترم ابو ٥ دولار.. ولكن القسم الأول من الخريطة يمكن تحديده عقب ٥٢..وبغض النظر عن هويتك السياسية أو العاطفية في عشقكك للعهد الناصري أو كراهيتك له لأننا شعب عاطفي ولم نتعامل يوما مع الرئيس علي كونه موظفا يمارس مهام في إطار وظيفته ليس أكثر ويستحق الثناء أو العقاب.. فالرئيس عادة ليس موظفا لأنه لم يختاره احد.. هو الذي اختار الشعب ليحكمه وهذه حقيقة مؤكدة بلغة علم السياسة والاقتصاد ولا تحتاج وجهات نظر..

 بدأ العصر الناصري قويا عفيا.. ليس فقط في تحدي العالم بدون داع أو بلا مبررات مدروسة وهذا ليس مجالنا لكنه جاء وظل يغازل الشعب.. مدارس ومستشفيات وتحويل ماورثناه من العصر الملكي إلى العصر الجديد بلافتة أو يافطة جديدة.. يعني جامعة الملك فاروق تصبح جامعة القاهرة.. وميراث ووقف الدمرداش باشا يصبح مستشفى الدمرداش.. المهم أن مصر شهدت توسعا في مجالي التعليم والصحة ثم جاءت الصناعة لنشيد قلاع صناعية لا أحد ينكرها في مختلف المجالات ابتداء من الحديد والصلب انتهاء بالاسمدة مرورا بالغزل والنسيج.. أما الزراعة فقد كانت الطامة الكبرى.. فمن أجل رضا الفلاح وهو في حينها كان السواد الأعظم من الشعب، تم تفتيت الوحدة الزراعية بعد مصادرة الأراضي من أصحابها الأصليين ليتم توزيعها حتى باتت العشرة فدادين ٦٠ متر ويكفي أبناء منزل لعشرة أشقاء.

. هذة و بشكل سريع ملامح القسم الأول من الخريطة.. كان يضمن بناء دولة قوية إذا ما توافرت له التنمية الحقيقية فيما بعد وعدم الانشغال بوهم السياسة..وفي المقابل كان يشهد المواطن استقرارا اقتصاديا إلى حد كبير وتوسعت الحرف والمشروعات الصغيرة التي لم تستثمر في إنشاء نواة راسخة لدولة يمكن أن تنافس في هذا العصر الذي لم تكن ظهرت فيه الكيانات الصناعية التي أطاحت بنا فيما بعد.. فلم يكن لدينا مشروع قومي واحد نعيش من أجله وننتظر ثماره مستقبلا..

وتغيرت الأحوال ورحل ناصر وكان مشروعنا الوحيد عودة الكرامة والأرض والسيادة..وفي ظل ذلك المنهج تجاهلنا الخريطة الاقتصادية التي كانت إلى حد كبير مسخرة لخدمة غرض واحد وهو المجهود الحربي..فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة..

 وانتهت المعركة ولسنا بصددها..وحاول السادات أن ينقل مصر من العصر الاشتراكي واقتصاد الدولة إلى الاقتصاد الحر والانفتاح.. نعم.. في يوم وليلة على رأي وردة الجزائرية..واطلق المنتفعون حينها مقولة : من لن يحقق الثراء في عصر السادات لن يفعل ذلك مطلقا..هكذا زرعنا الانتهازية في النفوس وأصبحنا نعيش ليس من أجل الدولة التي وضع بذورها عبد الناصر..وكان الانفتاح صدمة ليس اقتصادية فقط ولكن حضاريا.. فقد أصبح التفاح الأمريكاني متاح.. والشامبو والجينز..لقد أدركنا اننا لا علاقة لنا بالخارج..وبدأت التوكيلات العالمية تغزو مصر وبالطبع صاحب ذلك بدايات تصنيع منتجاتهم محليا وهاهي العاشر من رمضان تنافس حلوان والمحلة الكبرى..وبشكل عشوائي اقتصاديا..اصبح لدينا بورسعيد..والتي سنحرمكم منها أيضا بقرار..واختلط الحابل بالنابل وكان كل مايشغل السادات أن كل منزل يكون فيه تلفزيون ملون ومية سخنة كما أعلن للإعلامية همت مصطفي"همت يابنتي"..قرارات تشكل القسم الثاني من الخريطة بشكل متضارب ومعارض مع القسم الأول.. هناك دولة بدأت ملامحها في الأفق ولكن تتشكل كما يحلو لها..

ورحل السادات ودولته في مراحل التشكيل وتصارع دولة ناصر..وجاء مبارك ليحظي الجنين بالرعاية أكثر من المولود الأول.. وظل الجنين يتشكل ويسحب البساط من تحت أقدام الدولة الناصرية ونحن جميعا نبارك ذلك.. نبارك هجرة الأرض والسفر من أجل العودة لفتح بوتيك.. نقدم استقالة من الحديد والصلب لأن مرتبات الشركات الاستثمارية أضعافها..صراع نشارك فيه بدون إرادتنا في غياب مشروع قومي حقيقي.. واذكر ذات مرة في عصر عاطف صدقي أن شركات القطاع العام لإنتاج السكر نشرت اعلانات على مدى ٣ايام في الصفحات الأخيرة للصحف القومية الثلاث تناشد مبارك ورئيس الوزراء بوقف استيراد السكر لأنه يضر ويحطم المنتج المحلي.. لقد كان السكر المحلي مابين جنية و١٠٥ قرشا في الوقت الذي كان فيه السكر المستورد ب ٨٠ قرشا..ولك انت تتخيل أن الدولة بذلك لاتعمل من أجل المواطن لأنه من حقه شراء الأرخص سعرا.. كما أنها بذلك الإعلان تعترف بالفشل.. والفساد أيضا.. تعترف أن هناك سياسات خاطئة وقرارات غير مدروسة.. لقد تصورت أن هؤلاء سيحاكمون ليس فقط بتهمة التآمر على المواطن والدولة.. لكن بتهمة الغباء قبل الفساد.. وبالفعل تم فرض رسوم إغراء على السكر المستورد حتى يصل سعره للمحلي.. هكذا كانت تتشكل الدولة الثانية بهدوء..

وسوف نستكمل في الحلقة القادمة كيف تم الاشتباك بين الدولتين قبل ميلاد الدولة الثالثة..

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر عن رأي التحرير .. 

تعليقات