JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

-->
أحدث المواضيع
الصفحة الرئيسية

محمد قدري حلاوة يكتب : متحف جديد لأمة محنطة


حقائب المهاجرين الذين لقوا حتفهم في البحر.. جُمعت و وُضعت في متحف إيطالي" PortoM" في جزيرة  "Lampedusa" ، و كتب عليها " لكلّ حقيبة حكاية "..
يالا هذا الغرب الرؤوم الشفوق صاحب القلب الكبير الذي يحتوينا ويتذكرنا ويترحم على موتانا - الذين هم في حقيقتهم شهداء البحث عن لقمة العيش -.. ذلك الغرب المنشئ لمنظمات حقوق الإنسان الآسيانة دوما على حق الإنسان في كل مكان من العالم.. تناضل من أجل حقوقه.. تعقد المؤتمرات في القاعات الموشاة المكيفة تناقش قضايانا وتصدر البيانات الجزلة التي تشبه نفثات العطر الملطفة لرائحة الأجواء العفنة..( كانت صورة الطفل الغريق إيلان كردي مجرد صورة تعطفنا معها يوما أو يومين ثم عدنا لطاحونة حياتنا ورحاها ونسيناها سريعا سريعا)..

متحف جديد يضاف لمتاحف الغرب المتحضر التي تمتلئ بها ميادينه وجنباته.. تعرض آثار الحضارة الإنسانية ومنها بالطبع آثار منطقتنا العربية المنهوبة التي تزين قاعات متاحفه وجنباتها (١)..يروجون لذلك بأن الآثار تراث إنساني مشترك.(نفس تلك  الصيغة الأثيرية  المحلقة في سماء الفضيلة تنطبق على المخطوطات والوثائق المنهوبة أيضا )..كيف أتت كل تلك المنهوبات من بيئتها الأصلية إلى تلك البقعة؟.. نهبا وسرقة؟.. إستعمارا وسلبا؟.. لا يهم فهي أسئلة غير مطروحة.. ومناشدات خجولة منا لطرح القضية على المائدة ( مائدة مفاوضات جديدة نعود منها دوما عرايا خالي الوفاض) (٢)..هذا لأن تلك الصيغة الاثيرية هذه تناسب مصالحه..لكن عندما يأتي الحديث مثلا عن وسائل التقنية الحديثة وحق إمتلاكها تجده يحتكرها ويحميها بحقوق الملكية الفكرية..(والتناقضات لا تنتهي اتفاقية الجات تحمي حرية انتقال السلع..والدول الغربية تقيد حرية انتقال البشر...الدول الغربية تشجع  وتمول وسائل تحديد النسل في دول العالم الثالث..بينما تعضد زيادته في دولها وتخصص له حوافز ..و...و..و.. على سبيل المثال لا الحصر) . فهي إجابات محددة وإتفاقات مكتوبة ممهورة بتوقيعات السيد - الغرب - والمسود - قاطني باقي أصقاع العالم المطرودين من جنة رحمته ولابأس من بعض الدعم المالي لفرض تلك القسمة الظالمة بتسمية شفوقة تحمل معنى الخير هي الأخرى.. إعانات ومنح هل نطمح في تضامن أكثر من ذلك (بل إن في فرنسا بلد " التنوير" متحف خاص تحتفظ فيه بجماجم المناضلين الجزائريين الذين أستشهدوا من أجل الإستقلال الذي تحقق في بدايات ستينيات القرن الماضي.. ناهيك عن جمجمة " سليمان الحلبي" منذ أكثر من قرنين ونيف قاتل المستعمر كليبر الذي أتى مع حملة العدوان الفرنسي على مصر يوليو ١٧٩٨ (٣).. لعلهم يدرسون تلافيف تلك العقول الحمقاء التي قاومت إستعمارهم ورفضت " تنويرهم".. هل هناك خلل خاص بها؟.. جينات متنحية متطرفة أدت بهم لذلك؟.) ربما.. 

لكن ما الأسباب التي دفعت هؤلاء الشهداء المعروضة حقائبهم في المتحف لركوب أمواج المحيط المتلاطمة في مراكب خرقاء مكتظة؟.. ذلك هو السؤال المسكوت عنه الذي يحتاج منا نحن إلى إجابة.. 

هؤلاء الشباب يشقون بالفعل بحثا عن فرصة عمل في منطقتنا العربية السعيدة.. بعضهم يجدها بعد بحث ودأب وشقاء وآخر يجدها أمامه زاهية تقول له هيت لك نظرا لإنتمائه الطبقي أو ثروة عائلته أو علاقاتها بالنافذين في مواقع السلطة - وما شابه ذلك من أسباب  .. البعض يشقى ويعمل وظيفتين وثلاث في اليوم فقط كي يسد حاجات السائمة المأكل والمشرب والتناسل أحيانا.. البعض ييأس ويهاجر هجرة غير شرعية على مراكب مكتظة يعلم تماما أنها قد تغرق به لكنها صارت الملاذ الأخير والخيط الأخير من الأمل الباق له في الحياة إن كتبت له النجاة.. عله يجد مصدر رزقا.. يكون ثروة... يعيش في مجتمع يحترم قيمة الإنسان ( هناك لوجه الحقيقة مظاهر وأفعال تؤيد ذلك وأسباب أخرى مسكوت عنها أيضا مثل العنصرية وسيطرة رأس المال على توجهات تلك المجتمعات تشوه وجه الصورة وعلى أية حال ليست هي موضوع النقاش المطروح الآن) مجتمعاتنا مريضة.. الهوية ضائعة.. والإغتراب داخل الوطن أفدح من الغربة خارجه.. عندما تفتقد المجتمعات العدالة وتكافؤ الفرص والمساواة وقياس قيمة الفرد بمواهبه وإمكانياته.. عندما يستشري الفساد ويتم إفساد عقل وفكر الشباب عن عمد يجب إعادة التفكير في الأمر للمفكر الرائع نعوم تشومسكي عبارة أثيرة تقول" أجعل الرداءة تعم حتى تصبح عادية ثم مستساغة ثم مطلوبة" وهذا ما يحدث بالضبط وعمدا وفي كل المجالات حصرا وعدا ..على سبيل المثال  نظام تعليمي بائس يجب أن تحفظ وتردد الإجابة المطلوبة ليس مطلوبا التفكير وإعمال العقل وإياك ثم إياك  من النقد..أتذكر سؤالا كان مفروضا علينا في مادة اللغة العربية  البلاغة تحديدا يقول دوما أي العبارتين أجمل ولماذا؟.. عبارة تأتي مليئة بالمحسنات البلاغية سجع وكناية وجناس وخلافه.. والأخرى خالية تقريبا من محسنات اللغة.. صيغة السؤال تقول لك أختار.. لكن هناك إجابة مفروضة لا خيار فيها.. تلك الأولى - المفروضة - مكللة التاج بمحسنات اللغة.. يمكن للمرء إختيار الأخرى منزوعة التاج بالطبع لأنها في رأيه - كما ينص السؤال على حتمية إبداؤه - غير متكلفة.. تصل للأفهام بسهولة.. تتفق مع ذائقته.. أو أي سبب ورأي آخر لكنه هنا يفقد درجات التقييم.. رسب في المادة.. هذا هو المنطق السائد إياك أن تفكر.. أن تختار.. أن تنتقد.. أن ترفض.. ألا تردد نغمة النشاز مع الجوقة الزاعقة.. ماذا ننتظر من الحصاد إذا  إن كانت تلك هي البذرة والماء المالح المروية به والصحراء القاحلة المغروسة فيها؟ .. يتحدثون بعد ذلك عن جيل مستهتر فاقد الإنتماء للوطن ولكنهم لا يسألون أنفسهم أبدا عن المسئول عن مد الجذور الهشة في الأرض القاحلة..وتغييب ومحو الهوية..  والمخيطة لشفاههم عن صرخة الرفض.. والكاتمة لزفرات الغضب المثقلة بالسلاسل والزرود خلف أسوار صدورهم العارية .. وسراب رؤية شجرة الحرية تظللنا يوما ما.. حرية الرأي والموقف والإختيار.. وليست تلك الحرية المجاب عنها سابقا والمرغوبة والمفروضة ( أو بالأحرى المنتحلة لمعنى الحرية والتي ترتدي زيها وهي نقيض معناها ومغزاها تماما.. هي الحرية باللغة الأوريلية الشهيرة.. والمدعومة والمرضى عنها والمروج لها أيضا من الخارج لتجتث قيمنا ومبادئنا وإنتمائتنا وعاداتنا الباقية بكل أشكالها وأنواعها مستخدمين في ذلك أدواتهم المحلية المجندة) . ربما قد شططت أو شطحت وشردت عن جوهر النقاش وقضيته...قد يكون سردا يفتقد للمنطق أو أنني تجاهلت عوامل وظواهر وأسباب أخرى عديدة..  هي كلمات وليدة اللحظة عندما غمرتني مشاعر الغرب الشفوق ومنطقتنا العربية المتجاهلة للمأساة الصامتة دوما.. الفارضة دوما للإجابة الصحيحة.. المتيمة بالحضارة الغربية التي حولت كلمة " الإنسان" معنا ومغزا وسلوكا وقيما وتضامنا وعطفا ورسالة وحكمة وجود.. إلى محض " بشر" سلالة أخرى من عديد من السلالات الموجودة في عالمنا.. رغبات وشهوات وصراعات وحروب ودماء والبقاء للأقوي.. بل ربما كانت تلك السلالات أكثر رحمة وتضامنا وعطفا منا كبشر.. نحن من نفسرهم ونرصدهم.. وهم صامتون عاجزون عن تفسير ذلك المخلوق السائر على قدمين الذي فقد الحق في وصفه وتوصيفه وتعريفه ورسالته " كإنسان" .. أخاف على أمتي من الإندثار (٤).. وأنا أرى علامات الموت والإنتحار عمدا وإصرار وقسرا وترصدا.. 

الهوامش

(١) حالة التوله بالغرب والانبهار به بكل ما تاتي به رياحه
هي حالة مرضية بالتاكيد..ولايكفي في رصدها وتتبعها وتأريخها مئات الصفحات.. فالمرض قد صار متوطنا في العقول والفكر والتوجه ..واستفحلت تشوهاته الوراثية الي المسلك والملبس والمأكل.. بل لقد بدت بضعة تصرفات لا ارادية كأنها التشنجات التي تحدث فجأة حتي بدا الامر كله ملهاة في عقد منفرط من المساخر..  واحدي تلك التشنجات اننا عندما كنا نحتفل باكتشافات جديدة للاهرامات اقام د.زاهي حواس المسئول عن الآثار وقتها الحفل في الساعة الثالثة والنصف صباحا بتوقيت القاهرة.. لماذا يا سادة يا كرام ؟..الاجابة انه اختار هذا التوقيت ليتوافق مع توقيت الولايات المتحدة الامريكية ومحطات تلفزتها.. اكتشافات الاهرامات المصرية صارت لاتخصنا نحن المصريين ولكنها تخص المواطن الامريكي !!!.. ولم تكن تلك هي الارتجافة الارتعادية الوحيدة بالطبع ولكنها صارت اكثر من الحصر.. فمثلا تمثال رمسيس الثاني المسكين - الذي لو كان يعلم ما سوف يحدث لتمثاله مافكر في تشييده قط - هذا التمثال عندما تم وضعه في ميدان رمسيس اشهر ميادين العاصمة امام محطة سكة حديد مصر كان رغم خطأ نقله من بيئته الأثرية الطبيعية تذكيرا ذكيا لكل من القادمين للعاصمة بعظمة حضارتهم...ولكن الجهابذة تذكروا فجأة بان القادمين للعاصمة هم في سوادهم الأعظم من السكان المحليين الذين يحملون بطاقات شخصية مصرية وليست باسبورات اجنبية.. وهكذا في احدي التشنجات الاخري تم إتخاذ قرار بنفله إلي المتحف المصري الكبير الذي يجري تشييده وتكلفت عملية النقل ستة ملايين جنيه.. المهم أن يشاهده السائح الأجنبي ولا داعي لتذكير القادمين للعاصمة بأجدادهم فذلك منهج بال من التفكير قد ولي عصره.. وتم نقله في موكب حاشد نقلته وسائل الإعلام..قيل حينها أنه تم نقله حماية له من التلوث بفعل العوادم وصخب العاصمة..(  ويبدو أن هؤلاء القوم متخذي القرار شديدو الإعجاب بتمثال رمسيس الثاني فقدصنعوا نسخة باهتة مقلدة من تمثال رمسيس ووضعوها في طريق مطار القاهرة الدولى..وصارت المشكلة الوحيدة هل يوضع وجه التمثال ل السائح القادم لمصر ليكون اول مايراه عند وصوله لمصر..ام يوضع ووجهه ل السائح المغادر لمصر في طريقه للمطار ليكون اخر ما يذكره بها؟ ).. لكن نفس تلك العوادم وذلك الصخب لم يمنع إتخاذ قرار بنقل أربعة من الكباش من طريق الكباش بالأقصر إلي ميدان التحرير الذي يبعد عن ميدان رمسيس كيلو متر واحد في إرتعادة تشنجية أخري أطلقوا عليها عنوانا عريضا " خطة تطوير ميدان التحرير "..( لا تستبعد ياصديقي في المستقبل أن يلصق عليهم بعض القوم إعلانات عن وظائف خالية أو مساكن للايجار مثلا.. أو أن يكتب عليهم أحدا ما عبارات تخدش الحياء مثلما يحلو لبعض القوم تشويه حوائطنا  أو يتخذها البعض الآخر موقعا لبيع وعرض بضاعته المتواضعة)
ماسبيرو الذي يطلق اسمه علي اكبر مبني اعلامي مصري وفيه تلفزيون الدولة هو في حقيقته لص اثار سرق ٧٠ الف قطعة اثار مصرية لكن لأنه أجنبي فذلك يكفي شفاعة حتي نخلد إسمه .. ولا ننسي بالطبع أننا أعضاء في منظمة الفرانكوفونية والتي يفترض أنها تضم دول المستعمرات الفرنسية السابقة والمتحدثين بالفرنسية ويبدو أن أقل من ثلاثة سنوات من الإحتلال الفرنسي لمصر من قرنين كانت مبررا كافيا للإنضمام لمنظمة الفرانكوفونية رغم ندرة عدد المتحدثين بالفرنسية في مصر ..ومضت ولاتزال تمضي تلك الحركات اللا ارادية حتي ان كل ارتجافاتها بدت بعد ذلك طبيعية او علي الأقل قبلناها كعلامة من علامات تطور اعراض المرض المتمكن..وأحد مضاعفاته التي كان يفترض توقعها ومقاومة استفحالها..لكنها تمضي كغيرها من علامات استلاب العقول وسبيها...ومازال رمسيس يلعن الجهابذة من قبره وقد بدا مقيدا لا يملك القدرة على التصرف ولا يستطيع طولا ولا حيلة.. أما الكباش فقد سادها الصمت فلم يصدر منها اعتراضا ولا تبرما و أستسلمت لمصيرها المجهول..


لايوجد  اي تقدير رسمي او غير رسمي يقدر  أو يدلنا ولو على وجه  التقريب عن حجم الآثار المصرية المنهوبة.. الاثار المصرية تم نهبها علي مر العصور وزاد النهب ووصل لمرحلة مجنونة من التجريف بعد العدوان الفرنسي علي مصر عام ١٧٩٨  (واللي بيسميه بعض المتماهين والمأسورين فكريا  بالاسم الملطف الحملة الفرنسية)..
وكان كتاب وصف مصر هو دليل اللصوص والافاقين للوصول لمنابع الآثار المصرية القديمة وبدات حملة من النهب المنظم تبدو بلا نهاية ( والغريبة ان بعض المنبهرين بالعدوان الفرنسي بيتجاهل ان المجمع العلمي اللي أنشأه نابليون كان الغرض منه هو دراسة الامكانيات الاقتصادية لمصر المحروسة تمهيدا للنهب والتجريف باعتبار مصر مستعمرة يجب استغلالها ..لدرجة ان بعضهم اراد الاحتفال سنة ١٩٩٨ بذكري مرور ٢٠٠ سنة علي ما يسمونه الحملة الفرنسية علي مصر..ووصل الامر لدرجة  ان فاروق حسني وزير الثقافة الاسبق وقف يدافع عن فكرة الاحتفال بذكري احتلال وشبه الاحتلال الفرنسي بالتدخل المصري في اليمن!!!!)..
واستعادة الاثار المنهوبة تلك يحتاج صيغة جديدة من التفكير وآليات مختلفة في التحرك...الاعتماد علي المناشدات والمنظمات البروتوكولية الخاملة ذات المقاعد الوثيرة مثل اليونسكو لن يؤدي إلى نتيجة ... (هذا بالإضافة بالطبع للمستندات والوثائق والمخطوطات الأثرية المنهوبة هي أيضا) 
وفي تقرير المجلس القومي للثقافة والفنون والاداب والاعلام التابع للمجالس القومية المتخصصة اوصي " باعتبار كل قطعة اثرية من الآثار المصرية هي قطعة من ارض الوطن " وبعد الصيغة الوطنية الحماسية للتقرير نجد انه يستطرد قائلا" يجب استردادها كلما امكن ذلك "   ولم يطرح التقرير بدائل ان لم يمكن ذلك..وواصل التقرير توصياته بطرح القضية علي اليونسكو..واختتم التقرير توصياته بلهجةمستسلمة قانطة قائلا" انه في حال استحالة استرداد بعض الاثار التي اصبحت من معالم الدول التي نقلت اليها كالمسلات التي تزين ميادين بعض المدن العالمية( تنتشر المسلات المصرية في لندن و باريس و روما ونيويورك واسطنبول بعضها اهداء من محمد علي والخديوي اسماعيل والبعض الآخر بالنهب )..يتفق مع هذه الدول ان توضع لوحة واضحة عند قاعدة المسلة تشمل تاريخ المسلة وبياناتها التاريخية وانها تخص مصر وتعريف طلاب المدارس والجامعات باثارنا بالخارج"( اليوم السابع الأربعاء ١١ ابريل ٢٠١٢ )..هذا هو اضعف الايمان الذي توصلوا إليه .. المجلس المكون اسمه من  عشر كلمات  هذا هو الحل المتهافت المتخاذل  والذي يبرر للناهبين الاحتفاظ بما نهبوا لأن مسروقاتهم اصبحت من معالمهم فقط يعلقون لوحة لأصل الأثر وتاريخه ..هذا هو الذي جادت به قرائح   السادة الجهابذة.


القراءة في وثائق التاريخ عملية شاقة وشيقة وشائكة في آن واحد.. من الذي يروي التاريخ؟.. وكيف يرويه؟. وماهي وجهة النظر والخلفية التي يتبناها وتدفعه لذلك؟.. وأين الحقيقة وسط تلك الأكوام المكدسة من الروايات والوثائق؟..
قراءة سريعة في " مجمع التحريرات المتعلقة إلى ما جري بإعلام ومحاكمة سليمان الحلبي قاتل صاري عسكر العام  كلهبر.." الذي طبعته قوات الإحتلال الفرنسي لمصر والمسماة تلطفا بالحملة الفرنسية.. قد تعطي صورة سريعة عن واقع دعاوي الحرية والإخاء والمساواة.. تلك الدعاوى البراقة التي توارت خلفها جرائم الثورة الفرنسية ومذابحها.. 
عندما تم القبض على سليمان الحلبي وإستجوابه..( سأذكر الإقتباسات من الكتاب الصادر بلغته الصادر بها).. رأي المحققون الفرنسيون أنه يكذب ويراوغ.. فما كان إلا أن "أمر صاري عسكر أنهم يضربوه حكم عوايد البلاد.. فحالا إنضرب لحد إنه طلب العفو.. وأوعد إنه بقى يقر في الصحيح _ يقول الحقيقة _.. فأرتفع عنه الضرب وإنفكت له سواعده".. لاحظ هنا أن " الضرب" كان إضطراريا نظرا "لكذبه ومراوغته".. وأنه تم "بحكم عوايد البلاد" فقط فهو فعل لا تأتي به الجمهورية الفرنسية المبشرة بالحرية والتي أعتادت إحترام عوائد البلاد.. ألم يحتفل" نابليون " ذاته بمولد النبي" صلى الله عليه وسلم ".. بقى أن نذكر أن الإستجواب تم في حضرة " مينو" الذي أشهر إسلامه بعد ذلك وسمي نفسه " عبد الله " إفراطا في إحترام "عوايد البلاد"..
ولأن الفرنسيون شديدو الإحترام لثقافة وعادات البلاد التي يحكمونها فبعد محاكمة سريعة للحلبي ورفاقه.. تداول القضاة الفرنسيون وقرروا " أن يعذبوا بعذاب من العذابات المعتادة بالبلاد ( ثانية!!).. و أفتوا" أن سليمان الحلبي تحرق يده اليمين.. وبعده يتخوزق.. ويبقى على الخازوق لحين تأكل رمته الطيور ".. كما حكموا على شركاه أن يقتلوا وتعلق رؤوسهم على" النبابيت ".. وتحرق أجسادهم.. وأن يجري كل ذلك أمام ناظري الحلبي قبل تنفيذ الحكم فيه..
الفرنسيون الذين أتوا بالحرية مضطرين في أحكامهم للأخذ" بعوايد البلاد " مهما بدت بشعة في عيون البعض ..ليس من حق أحد إذن أن يستنكر الوحشية الفرنسية...هم مضطرون لمسايرة أعراف البلاد التي أتوا إليها مبشرين بالحضارة والتنوير .. ( رغم أن التاريخ لا يذكر عقوبات مماثلة لتلك تمت في مصر نتيجة جرائم القتل).. وتحكي وقائع التاريخ أن " سليمان" لم تند عنه صيحة ألم عندما حرقوا يده.. ولم تبدو منه شكوى حين وضع على الخازوق.. فقط شعر بالعطش الشديد وطلب من جندي، فرنسي الماء.. وهم أن يعطه إياه إلى أن نهاه أحدهم عن هذا الفعل الكفيل بقتل " سليمان" على الفور مما يقيه لحظات أخزي من مشاعر العذاب الأليم.. ويبطل الحكمة من سردية العذاب المرسومة بدقة.. 
لم ينس الفرنسيون بالطبع أن يحتفظوا بجمجمة " سليمان" ويأخذوها معهم عندما رحلوا من مصر.. ومازالت محفوظة بأحد متاحفهم ( كما يحتفظوا بجماجم العديد من  الثوار الجزائريين).. لكن تلك المرة طبقا " لعوايدهم هم".. عوايد العدالة الفرنسية)..

(٤) يقول احد شيوخ الكريك - وهي احدي قبائل الهنود الحمر المندثرة - ويدعي " الثعبان المنقط " واصفا سياسة ابادة الهنود الحمر - ووصف الهنود الحمر اسم قسري اطلقه عليهم قاتليهم  " اخوتي !.. لقد استمعت الي احاديث كثيرة لابينا الابيض العظيم عندما جاء عبر البحار الواسعة ..كان رجلا قليل الجسم.. .كانت قدماه متشنجتين لطول جلسته في قاربه الكبير.. فتوسل الي الهنود كي يعطونه قطعة ارض صغيرة يوقد عليها ناره..لكنه عندما سري الدف المنبعث من نار الهنود في اوصاله وامتلا جوفه بطعامهم.. صار كبير الحجم..وبخطوة واحدة احاط برجليه الجبال وغطت قدماه السهول والوديان... اما يداه فقد احاطتا بالبحار الشرقية والغربية..واستراح راسه علي القمر..ثم اصبح هو نفسه ابانا العظيم.. احب أبناؤه الحمر وقال لهم ' ابعدوا قليلا ! اني اخشي ان تدهسكم قدماي .'..يا إخوتي ! لقد استمعت الي احاديث كثيرة من ابينا العظيم..لكنها دائماً كانت تبدأ وتنتهي بهذه العبارة : ' ابعدوا عني قليلا ' "... ( من كتاب التاريخ الشعبي الولايات المتحدة - تأليف هوارد زن - ترجمة شعبان مكاوي - ج ١- ص٢٢٤- سلسلة المشروع القومي للترجمة- رقم ٧٣٦ )......هذا الوصف العبقري للابادة والازاحة يبدو انه يتوجب الان قرائته والتامل فيه واستدعاء الحاضر والإستفادة من عبر زوال الامم..والنهل من دفات كتب التاريخ الملقاة علي الارفف المتربة... امة الضاد صارت امة التضاد.. ثروات تفوق افاق الخيال وفقر مدقع يتجاوز حدود الواقع... مهبط الاديان تتفرق شيعا وفرقا وطوائف.. أمة "اقرا " يتوحش فيها الجهل والامية والتخلف... بشر بمئات الملايين لكنهم مغيبون بقسوة واقعهم المعيشي فصاروا كالزبد وذهبوا جفاء.. تاريخ مفعم بالتبديد والتفريط في الثروات والارادات...سيفنا مسلول بيننا وعلينا وعلي الاعداء مستكينا في غمده..عجزنا عن التوحد وتفرقنا دولا وامارات وممالك.. ثم ها نحن نتشظي الي دويلات وقبائل وجماعات... الغريب بيننا مكرم والقريب فينا مهان..ان لم تكن تلك إرهاصات الانحلال والإندثاز ..فقولوا بالله عليكم كيف تكون إمارات الزوال؟ ...

"الزنبقات السود في كفّــي ...
و في شفتي ... اللهب.. 
من أي غاب جئتي.. 
يا كل صلبان الغضب ؟.. 
بايعت أحزاني ..
و صافحت التشرد و السغب.. 
غضب يدي ..
غضب فمي.. 
ودماء أوردتي عصير من غضب !.. 
يا قارئي.. 
لا ترج مني الهمس.. 
لا ترج الطرب.. 
هذا عذابي ..
ضربة في الرمل طائشة.. 
وأخرى في السحب"..

" محمود درويش"...

( أعتذر للإطالة وزفرات الغضب.. تلك السردية مهداة لأرواح شهداء البحث عن لقمة العيش.. ولكم أصدقائي وأحبتي لمن يملك الصبر على مواصلة قراءة نزيف تلك الكلمات.. وأنوه أن صديقة عزيزة ومفكرة ثاقبة الرؤية أوحى لي في  واحدة من سردياتها الثمينة بالفكرة أما عن الخبر والصور المرفقة نقلا عن صديقة أثيرة عزيزة مميزة أخرى و لا زلت أنتظر الإذن منهما للإشارة إلى أساس الفكرة و نقلي الخبر والصور عنهما ..والصور المرفقة هي  صور المتحف الجديد المقام في إيطاليا )

( تم تغطية صورة الطفل الغريق الشهيد إيلان كردي التي ضفتها للسردية .. لأنها قد تحتوي على محتوى صادم.. كما أخبرني مارك إبن الغرب الشفوق.. ألم أشير لكم كم هو الغرب رحيم رؤوم... لكنني أتسائل هل وجدتم حقيبة إيلان؟ .. قطعة حلواه المدسوسة في جيبه؟ .. علكته التي كان يمضغها؟ .. لعبته التي كان يحتضنها؟ .. هل كل ذلك معروض في معرضكم الجديد.؟..أم تم تغطيته أيضا لأنه يحتوي على محتوى صادم يخالف معايير المجتمع؟.. وما معنى الصدمة لديكم سادتنا؟.. وما هي معايير المجتمع المخالفة لديكم؟..الموت غرقا حدثا عاديا متكررا.. لا يصدم أحدا.. فقط صوره هي الصادمة..عذرا سيد مارك إن كنت قد خالفت معايركم وصدمتكم في مشاعركم المرهفة.. سامحنا يا إيلان أنت وآلاف معكم صوركم ممنوعة.. صادمة.. ودموعنا عليكم قد جفت ونبض نبعها)...
author-img

أخبار التاسعه

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق
    الاسمبريد إلكترونيرسالة