كنت أبدأ حياتي الصحفية عندما داهم مرض الموت سيدة الغناء العربي. فلم يتح لي تكوين ذكريات مباشرة عنها ولكني التقيت ببعض من عملوا أو تعاملوا معها. ومنهم المرحوم المهندس جلال نوارة أشهر مهندسي الصوت في الإذاعة والمسئول الوحيد عن بروفات وتسجيلات أم كلثوم في استوديو ٣٦ المعروف باسم استوديو ام كلثوم.
كما التقيت طبعا بالكاتب الكبير الراحل محفوظ عبد الرحمن مؤلف مسلسل أم كلثوم وبالدكتور محمد الجداوي أستاذ الصيدلة بالمانيا واحد مؤسسي فرقة رضا الذين كانت الست تدعوهم إلى حفلاتها وتستقبل بعضهم بين وصلاتهم الغنائية
كما سمعت من الأستاذ هيكل رأيه في شخصيتها وكذلك من المستشار طارق البشري الذي كان عمه الأديب الكبير عبد العزيز البشري من أصدقاء ورعاة أم كلثوم
ما أجمع عليه كل هؤلاء هو حرص الست الفائق علي الإتقان و علي بلوغ الكمال في فنها إلى حد القلق فسمعها الجداوي مثلا في الاستراحة تطلب من قائد فرقتها أحمد الحفناوي رأيه المفصل في أداء الوصلة السابقة ، وكان جلال نوارة في أيام بروفاتها وتسجيلاتها يأتي بحقبة ملابسه لأنه لا يعلم متي سيعود الي منزله وتصبح منطقة استوديو ٣٦ أشبه بمنطقة حربية
وطبعا رأينا في المسلسل تأكيد محفوظ عبد الرحمن علي هذا الجانب من شخصيتها الفنية لكنه كان يراها شيئا أكبر من فنها فهي منتمية بكل مشاعرها لناسها وشعبها ووطنها وأمتها ولذا فقد رفض (رحمه الله والعهدة عليه ) طلبا ملحا من أسرة ومحبي الموسيقار محمد عبد الوهاب بأن يكتب عنه عملا مماثلا لعمله عن أم كلثوم مبررا هذا الرفض بأن عبد الوهاب لم يعمل شيئا سوي أنه “غني ولحن “ وليس في دوره العام و رحلة حياته ما ينتج دراما خصبة وهذا مالم أتفق عليه مع أ / محفوظ مائة في المائة.
أعتقد الآن كما اعتقدت وقتها أن محبة ام كلثوم الصادقة لجمال عبد الناصر وولاء عبد الوهاب الدفين للعصر الملكي وكذلك كراهيته الدفينة لناصر هما السبب في موقف الأستاذ محفوظ المعروف بناصريته وكانت أم كلثوم ومحفوظ عبد الرحمن يفسران محبتهما لناصر بانحيازه وإنصافه بل وتحريره للفلاح المصري المظلوم طوال تاريخ البلاد.
ولهذا كان الأستاذ هيكل يقول إن ميزة أم كلثوم الخاصة أنها فلاحة مصرية أصيلة في تعريض خفي بانتماء عبد الوهاب النفسي لعصر الباشوات
وأما المستشار البشري فقد انتبه مبكرا وفقا لما سمعه من عمه وأصدقائه إلى ما شغلني وأدهشني أنا شخصيا قبل ذلك في أم كلثوم من إدراكها الفطري والعبقري وسرعة التقاطها لفكرة المؤسسية بحيث حولت نفسها كمشروع فني وموهبة إلى مؤسسة تنتظم الشعراء والموسيقيين والمفكرين والأدباء من أكبر رأس في كل مجال حتي المبتدئين وذلك بعد أن استوعبت معني وقيمة رعاية الكبار لموهبتها في بدايتها الذين كان علي رأسهم الشيخ مصطفي عبد الرازق شيخ الأزهر المثقف وسليل الباشوات وأمير الشعراء شوقي بك والشيخ أبو العلا وغيرهم كثيرون من مجايلبهم ومن الأجيال التالية
هذه المؤسسية التي استوعبتها وصنعتها شابة فقيرة من أعماق الريف لم تتلق تعليما نظاميا ولا تدريبا حياتيا في بيئة متمدينة قبل مجيئها إلى القاهرة هي المعجزة الكلثومية الحقيقية وهي ما جعلتها تحرص بفطرة عبقرية علي ما يصنع ويخلد أسطورتها إذ الموهبة دون منهج وعلم وصيانة وتطوير سرعان ماتذوي. ورغم أن عميد الأدب العربي طه حسين و الأستاذ العقاد ينطبق عليهما مثال النشأة الريفية الفقيرة نسبيا فإن الفارق بينهما وبين أم كلثوم أنهما تلقيا تعليما نظاميا في بداياتهما مهد لهما الطريق إلى حياة وثقافة العصر. أما الأستاذ عبد الوهاب وهو أيضا عصامي عظيم فهو ابن القاهرة، وان كان ولد في حي شعبي