الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمر منذ قليل بوضع قوات الردع الاستراتيجية في حالة التأهب القصوى أو الخاصة على الرغم من أن حلف الناتو والولايات المتحدة أكدا أنهما لن يخوضا أي حرب ضد روسيا لا في أوكرانيا ولا في أي مكان آخر، وسيحافظا على أراضي وحدود حلف الناتو والدول الأعضاء فيه. وأوكرانيا ليست عضوا في الحلف ولا تتمتع بأي صفات خاصة واستثنائية فيه.
من الواضح أن الرئيس بوتين قد تورط فعلا بدرجات كبيرة وأصبح من الصعب الآن التراجع. بينما أعلن الغرب امتناعه عن خوض أي مغامرات عسكرية في أوكرانيا ووقف حلف الناتو عند حدوده الرسمية، تاركا أوكرانيا كثقب أسود يبتلع الموارد الروسية، ويورط القيادة الروسية في مغامرات وتبديد موارد وعزلة اقتصادية ومالية.
الأخطر أن هذا الغرب الماكر والخبيث قد وضع روسيا وبيلاروس بدرجات ما في نفس وضع ألمانيا وإيطاليا عشية الحرب العالمية الثانية. وهذا سياق عام ملئ بالتفاصيل المختلفة طبعا، لأن الأزمنة مختلفة وموازين القوى مختلفة. ولكن في العموم، المشهد يكاد يكون شبيها بعشية الحرب العالمية الثانية من حيث الاصطفافات. وبالتالي، فإن روسيا في مأزق شديد الآن، وليس أمام القيادة الروسية سوى التلويح علنا باستخدام السلاح النووي، وهو ما فعله الرئيس بوتين منذ قليل. ولكن مع الأسف، فحتى هذه الخطوة، تبرر للغرب اتخاذ المزيد من الإجراءات الاقتصادية والمالية، وتشيع حالة من الخوف وفقدان الثقة لدى كل دول العالم من روسيا ومن زعيمها الرئيس فلاديمير بوتين بسبب التلويح باستخدام أسلحة الردع الاستراتيجية، على الرغم من أن لا أحد هدده بذلك، ولا أحدا أعلن عن نيته استخدام هذا السلاح ضد روسيا. وبطبيعة الحال، فإن الغرب يمتلك أيضا ترسانة نووية ضخمة ومتنوعة وأسلحة ردع أكثر تفوقا.
روسيا منذ يوم واحد فقط، هددت فنلندا والسويد بإجراءات عقابية، غالبيتها أو كلها، ستكون عسكرية حصرا بطبيعة الحال. وذلك بسبب إعلان الدولتين مخاوفهما بعد قيام روسيا بغزو أوكرانيا وتهديد أمن أوروبا والدول الصغيرة فيها. والمقصود من التركيز على هذه النقطة، هو أن القيادة الروسية تشيع حالة من الخوف وفقدان الثقة، وتهديد دول أوروبا عموما، ودولها الصغيرة المسالمة والمتقدمة اقتصاديا واجتماعيا وعلميا على وجه الخصوص. ويجري توريط القيادة الروسية بأنها تريد أن تهدم ما بنته أوروبا طوال قرنين أو ثلاثة قرون من نهضة وتقدم علمي وتقني واجتماعي وحضارة رقمية، وبأن روسيا تريد إعادة العالم إلى الوراء بهدم منظومته القيمية عموما، ومنظومة القيم الأوروبية على وجه الخصوص. أي أنه يجري توريط روسيا بناء على واقع غزوها أوكرانيا من جهة، وواقع تهديدها العالم كله باستخدم أسلحة الردع الاستراتيجية.
لقد تمكنت الولايات المتحدة وأوروبا من صياغة اتفاقات معينة في مجال الطاقة عموما، وفي مجال الغاز على وجه الخصوص، مع دول ومنظمات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وبعض دول آسيا الوسطى. علما بأن روسيا لن تقوم بوقف إمدادات الغاز، لأنها لن تستطيع بيعه في أماكن أخرى. ومنذ عدة أيام خرج مسؤول روسي ليعلن أنه إذا توقفت أوروبا عن شراء الغاز الروسي، فستجد موسكو أماكن أخرى لبيعه. والبعض يعول على أن الصين هي المقصودة بذلك. لكن الصين تشتري الغاز الروسي بأسعار أرخص من أوروبا أصلا. وفي حال توجه روسيا إليها لتصريف الغاز، لإإن بكين لن تخجل من طلب تخفيض الأسعار. وفي كل الأحوال لن تشتري الصين كل الغاز الروسي.
من جهة أخرى، قد تتأثر أوروبا من جراء عدم شراء الغاز الروسي، أو قيام روسيا بقطع الإمدادات. والأمر الأخير مشكوك فيها، لأن روسيا لن تقطع الإمدادات لأسباب تخصها هي وتخص مواردها المالية بعد أن أصبحت شبه معزولة عمليا. وعموما فقد انتهى الشتاء، وسيقل استهلاك الدول الأوروبية للغاز عموما. ناهيك عن أنه تم تنشيط مسارات وقنوات أخرى بعيدا عن روسيا لتوريد الغاز إلى أوروبا. هذا إضافة إلى توريدات الولايات المتحدة من الغاز المسال أيضا.
لا يوجد أي تحالف بين روسيا والصين، ولن يوجد هذا التحالف. وفي حال نجاح روسيا في أوكرانيا وإجبارها الغرب على قبول شروطها ومطالبها، فإن ذلك سيكون على حساب الصين، لأن روسيا ستحتل المكان المتوقع للصين، وستصعد على حسابها، وستكون هي القطب الثاني في العالم. وبالتالي، فليس من مصحة الصين أن تنجح روسيا نجاحا نهائيا أو مبهرا، وإنما قد تسمح بكين بنجاحات محدودة للإدارة الروسية لتحافظ هي على مكانتها.
لا يوجد أي تحالف بين موسكو وبكين ولن يكون، لأن حجم التبادل التجاري بين الصين والولايات المتحدة يبلغ 750 مليار دولار في السنة وتميل كفته لصالح الصين. أي أن الصين تربح المليارات من بيع منتجاتها في أسواق الولايات المتحدة ذات الطاقة الاستيعابية العالية. بينما الطاقة الاستيعابية لروسيا ضعيفة للغاية، حيث عدد سكانها 142 مليون نسمة فقط.
أما حجم التبادل التجاري بين الصين والاتحاد الأوروبي فيصل إلى 450 مليار دولار، وتميل كفته لصالح الصين أيضا. لكن حجم التبادل التجاري بين الصين وروسيا حوالي 110 مليارات دولار فقط. وبشكل عام فالشركات الصينية الكبرى، والحكومة الصينية تدةك جيدا أن الطاقة الاستيعابية الروسية للمنتجات الصينية ضعيفة.
بناء على النقطة السابقة، لا يمكن أن تستغني الصين عن أسواق بقيمة ما يقرب من الترليون ونصف الترليون دولار من أجل 110 مليار دولار، وإلا ستضطر للتخلي عن مواقعها واستثماراتها في العالم كله. وقد تقوم الصين بمناورات اقتصادية ومالية لمساعدة روسيا، ولكن ليس بالدرجة التي تسمح لروسيا بالتعافي أو الانطلاق إلى الأمام. وستظل بكين تحافظ على درجة حرارة "الصراع" بين روسيا والغرب، أملا في أن يضعفا بعضهما البعض. ولكن من المؤكد أن الغرب منتبه لهذه النقطة الساذجة، وسيجد الطرق والوسائل اللازمة لتفاديها. والمقصود هنا، هو تفادي الوقوع في تناقضات تفقده موارده المالية أو تورطه في حروب أو تعرضه لهزات اقتصادية أو عسكرية ضخمة ومؤثرة.
من الواضح أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد تورط فعلا بدرجات كبيرة وأصبح من الصعب التراجع. والمشهد الآن في غاية الهشاشة والخطورة، حيث أثؤت العقوبات الغربية على روسيا بشكل سريع، وتم إغلاق المجالات الدولية الأوروبية كافة أمام روسيا، وفصلها عن المنظومة المالية العالمية. كل ذلك والغرب ممتنع تماما عن أي تهديدات نووية أو عسكرية، لأن ما يجري في أوكرانيا هو بين موسكو وكييف الآن. لقد نجح الغرب الخبيث في توريط روسيا في هذا المأزق، بل ويدفعها إلى ارتكاب المزيد من الأخطاء لكي تصبح فرص واحتمالات التراجع نادرة أو معدومة. إن الغرب يضع بوتين في زاوية ضيقة ويدفعه ليس فقط إلى ابتلاع أوكرانيا والتورط هناك لفترة طويلة، بل وأيضا إلى إمكانية المغامرة بالهجوم على دول أوروبا الشرقية الأعضاء في حلف الناتو، أو على دول مثل فنلندا والسويد.
المشهد مرعب وقابل للانفجار في أي لحظة، وقابل أيضا للعديد من التأويلات. لكن تلويح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ قليل باستخدم أسلحة الردع الاستراتيجية تنقل الصراع إلى مستوى أعلى وأخطر وأكثر ضبابية وإشاعة للتشاؤم.
تعليقات
إرسال تعليق
أترك تعليق