مع تدافع الأحداث علي حدود أوكرانيا ، يبدو أن بوتين قد حسم أمره هذه المرة في إيقاف زحف خلف الأطلنطي إلي أراضي كانت إلي عهد قريب جزء من الأراضي الخاضعة لسيادة الاتحاد السوفييتي ، بعد أن استهتر الغرب بكل تحذيراته ، وواصلت أمريكا أسلوبها في التحلل من كل ترتيبات إنهاء الحرب الباردة في بداية التسعينات ، رغم ما أبدته إدارة بوش الاب وقتها من حرص علي إنقاذ ماء وجه الدب الروسي .
فهل تكون الأزمة الأوكرانية بداية محاولة دموية جديدة في تغيير الجغرافيا السياسية ، ومحاولة إستعادة أرض القياصرة العظام ؟..
بداية من ستينيات القرن الماضي ، بدأت مصر علاقات متشابكة مع الاتحاد السوفييتي الذي كان وقتذاك القوة الأعظم في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية ، ورغم أن السياسة المصرية اتبعت مبدأ عدم الانحياز ، إلا أن الحالة الثقافية الروسية في مصر كان لها مظاهر عديدة ، كان هناك مثلا المكتبة الشهيرة في نص البلد " دار التقدم " ، تبيع اروع الإنتاج الفكري والأدبي پأقل النقود ، ومترجمة ترجمة لا بأس بها ، وكذلك كان المركز الثقافي الروسي مركز أشعاع يعقد الندوات لمناقشة الأفلام والقصص والشعر وللإستماع إلي اروع كلاسيكيات الموسيقي ، ولا زلت أتذكر مناقشاتي مع الملحق الثقافي الروسي الذي كان يتحدث العربية بطلاقة ، حول الإلحاد في الشيوعية ، وأوضاع الفقر في جنة البروليتاريا ..
كان الروس في كل مكان ، في أسوان حول معجزة السد العالي ، وفي حلوان حول أفران الحديد والصلب بينما كانت سينما راديو تعرض أفلاما روسية عن الحرب العالمية الثانية ، وعن قصص حب الرفاق المناضلين .. إلخ
ولا شك عندي حينذاك أنهم كانوا يبذلون جهدا مكلفا لغوايتنا ، ومن المؤكد أنهم نجحوا نسبيا ، إلا أنهم عجزوا أن يفسروا غياب الحرية ، وكانت تلك نقطة ضعف خطيرة .. فلقد كنت مثلا ألتهم كل إنتاجهم الثقافي والأدبي ، كما قرأت كل مجلدات ماركس وإنجلز ( ولا زلت احتفظ بها في مكتبتي ) ، ولكنني لم أقتنع بأن أي تقدم يمكن أن يتحقق بقهر الشعوب ، وأن شعبا خائفا قد ينزل علي القمر ، ولكنه سيظل يتعثر فوق الأرض إلي أن يسقط .
وقد مرت سنوات عديدة بعد ذلك ، وتفكك الاتحاد السوفييتي وكأنه بيت من ورق ، وكنت أتابع الوقائع مأخوذا ، واتيحت لي فرصة لقاء مع جورباتشوف مهندس الهدد وتحدثت معه أثناء ندوة له في عمان /الأردن ، وقد نشرت مقالا عن هذه المقابلة في مجلة الدبلوماسي .
ثم أتيحت لي زيارة روسيا الاتحادية ، الوريث السياسي والعسكري للاتحاد السوفييتي ، وهناك لم أكن في حاجة لمترجم حين كنت في قلب الميدان الأحمر الشهير في موسكو ، فقد كنت أمشي في صفحات كتب قرأتها ، وأسمع أصوات تشيكوف وديستوفيسكي وتولستوي .. وغيرهم تروي لي كل الحكايات عن هذه الأرض العظيمة.
لكنني عندما رأيتهم ، بدأت أبحث عن مترجم ، كانوا كهولا يقفون في أركان الميدان وهم يحملون لوحة مثبتا عليها قلادات وأوسمة لامعة .
قيل لي انهم من القلائل الذين لا يزالون علي قيد الحياة من أبطال الإتحاد السوفييتي في الحرب العالمية الثانية ، وأن النظام الجديد في روسيا لم يعد يتولاهم بالرعاية الكافية ، ولذلك فهم يخرجون لبيع أوسمتهم ونياشينهم التي حصلوا عليها تكريما لبطولاتهم في الحرب .
ورغم أن الأسعار لم تكن باهظة ، وكان لدي إمكانية شراء بعضها بالفعل ، وخاصة قلادة فخمة قيل لي أنها أعظم الأوسمة وكانت تتلألأ وتعكس الضوء ..ولكن نظرة الحزن القابعة في عيون هؤلاء المتقاعدين أوقفتني ، لكأن الدموع المتجمدة في أحداقهم سكاكينا مشرعة علي الضمائر ، لذلك اكتفيت بأن أقدم بعض الدولارات لمجرد مقابل أن تلتقط لي صور معهم ، وفوجئت أنهم يرفضون في كبرياء وشمم ، وحذرتني المترجمة من العواقب لأن تلك إهانة كبيرة ..
وفي مساء نفس اليوم ، كنت في الأوبرا أشاهد البولشوي الشهير مقابل تذكرة زهيدة ، وكان ذلك حلما من أحلامي ، وشرح لي مرافقي إزدهار العلوم والفنون في زمن الإتحاد السوفييتي ، و شردت متذكرا هؤلاء المتقاعدين في زيهم العسكري القديم يتسولون بأوسمتهم علي نواصي الميدان الأحمر ..
تذكرت سقوط غرناطة ، و الأمير أبو عبد الله آخر ملوك الأندلس الذى سلم غرناطة للملك فرناندو والملكة إيزابيلا، تقول له أمه غاضبة :" لا تبكِ كالنساءِ ملكاً لم تدافع عنه كالرجال" .
أنها القصة التي لا يمل التاريخ تكرارها ، سقوط الإمبراطوريات والممالك ، وانهيار المجتمعات بسبب بذور الفساد التي تبذر فيها ، وهو المرض الذي شخصه أبن خلدون في مقدمته بوضوح .. الفساد يشبه السوس الذي ينخر في جذع شجرة المجتمع الضخمة تدريجيا حتي يتآكل وينهار .
لقد قال لي جورباتشوف في لقائي معه في عمان إنه أراد إنقاذ ما يمكن إنقاذه بالبيروسترويكا والجلاسنوست ، إلا أنه كان كمن يحاول حقن أكياس دم في جسد ميت (وقد نشرت مقتطفات من حديثي معه وقتها ).
وعندما استدرت مغادرا الميدان الأحمر لآخر مرة ، تفاديت النظر إلي هؤلاء الأبطال الذين ندموا بالتأكيد أنهم لم يموتوا وهم يقاتلون .