رحل عنا فى الاعوام القليلة الماضية، عدد من كبار المفكرين والكتاب امثال الدكتور/ محمد عمارة والمستشار/ طارق البشرى والاستاذ/ ابراهيم يسرى والدكتور/ قاسم عبده قاسم والدكتور/ حسن حنفى وآخرون.
ولقد كان الحزن عليهم مزدوجا؛ حزن على الفراق، وآخر على الحرمان، بدرجات متفاوتة، من اجتهاداتهم وافكارهم قبل رحيلهم، بسبب الأجواء السياسية العامة والقيود الأمنية والاعلامية والصحفية المفروضة على حرية الرأى.
وهو ما يستدعى بالضرورة الحديث عن حزن اضافى من نوع آخر؛ وهو الحزن على افتقادنا لنخبة من كبار الكتاب والمفكرين الاحياء بيننا، اطال الله فى اعمارهم، والذين اختفت مقالاتهم وكتاباتهم بسبب ذات القيود.
انهم مفكرون وكتاب أحياء يرزقون، ولكنهم ممنوعون من الكتابة والمشاركة فى اى انشطة صحفية او اعلامية، بسبب مواقفهم وآرائهم وكتاباتهم المختلفة مع الرواية الرسمية للدولة ومع سياسة الرأي الواحد.
وسأتوقف هنا على سبيل المثال وليس الحصر، مع قامتين فكريتين كبيرتين تنتميان الى مرجعيات فكرية مختلفة هما الاستاذ/ فهمى هويدى والدكتور/ ابراهيم العيسوى، اللذين اختفت مقالاتهم تماما من كل الصحف المصرية فى السنوات الماضية.والرجلان ينتميان الى تلك الفئة من المفكرين التى تتميز كتاباتها بالريادة فى مجال تخصصها والابداع والاثراء وغزارة الانتاج والاشتباك مع مستجدات الواقع اليومى وتحدياته.
ولكنهما ايضا من الجيل الذى لا يجيد ولم يتمرس وربما لا يرغب، فى الكتابة والتفاعل مع قرائه وتلاميذه عبر وسائل الاعلام البديلة فى مواقع التواصل الاجتماعى، التى عادة ما يتم اللجوء اليها هربا من القيود المفروضة على النشر الورقى.
والأستاذ/ فهمى هويدى هو كاتب صحفى من الوزن الثقيل ومن كبار قادة الرأى العام وواحد من قلة نادرة من الكتاب تكتسب الجرائد قيمتها من كتابته فيها. وتمثل كتاباته جزء من الكتابات الصحفية المحورية فى العقود الماضية، منذ مقال الثلاثاء الشهير بجريدة الاهرام، وصولا الى عاموده اليومى بالغ الثراء فى الصفحة الاخيرة من جريدة الشروق.
وهو يتمتع بموهبة خاصة فى طرح رؤيته بعد دراسة وتدقيق واف في أكثر القضايا الشائكة، بشجاعة ومصداقية كاملة وبدون مراعاة للخطوط حمراء.
وتمثل عديد من كتاباته مرجعا اساسيا ومشتركا لدى التيارات الفكرية المصرية على اختلاف مرجعياتها الفكرية والسياسية، وهى مكانة يندر من يتمتع بها فى زمن الاستقطاب الحاد الذى ضرب البلاد وكل الأمة فى السنوات الماضية.
يقف دائما على مسافة من أى سلطة، وكانت كتاباته من أبرز الكتابات الموضوعية المعارضة لسياسات مبارك، ومن أشدها مناهضة (لاسرائيل) وكامب ديفيد وجماعة المطبعين من الكتاب والمثقفين المصريين والعرب. وهو من المدافعين على فلسطين والمقاومة، والمنتقدين بشدة لمواقف السلطات المصرية من الاعتداءات الصهيونية المتكررة على غزة، فى زمن كاد ان يختفي فيه مثل هذا الخطاب الوطني من الصحف الرسمية والمستقلة بشكل خاص ومن الخطاب السياسى والثقافى المصرى بشكل عام. وهو من الداعمين لثورة يناير والمتفاعلين مع احداثها وازماتها وصراعات فرقائها اليومية، ومن المدافعين عنها حتى الرمق الأخير، والرافضين لإجهاضها والعصف بمكتسباتها.
تتميز كتبه وكتاباته، بطرح رؤية اسلامية مستقلة ومدققة ونقدية لافكار ومواقف كثيرة من داخل التيار الاسلامى ذاته ومنها: حدث في أفغانستان، القرآن والسلطان، إيران من الداخل، أزمة الوعي الديني، مواطنون لا ذميون، حتى لا تكون فتنة، الإسلام والديمقراطية، التدين المنقوص، المفترون: خطاب التطرف العلماني في الميزان، تزييف الوعي طالبان: جند الله في المعركة الغلط، عن الفساد وسنينه، خيولنا التي لا تصهل وغيرها.
وكان اصراره على التمسك بحقه الكامل فى التعبير عن قناعاته فى السنوات الأخيرة، ورفض اى تدخل من مقص الرقيب او قبول اى قيود او خطوط حمراء هو السبب الذى منع مقالاته فى الشروق منذ منتصف صيف 2017.
الدكتور/ ابراهيم العيسوى هو عمدة أساتذة التخطيط ومفكرى الاقتصاد الوطنى المستقل، ليس على مستوى مصر فقط وانما على المستوى العربى، واهم من طرح مشروعات متكاملة وعلمية وواقعية بديلة لنموذج التنمية الراسمالى التابع فى بلادنا المفروض على دول العالم الثالث من مؤسسات الاقراض الدولى واخواتها. ومن أهم مؤلفاته فى هذا المجال: نحو خريطة طبقية لمصر؛ قياس التبعية في الوطن العربي، نموذج النمو الآسيوية والبحث عن طريق للتنمية في مصر، الغات وأخواتها ـ النظام الجديد للتجارة العالمية ومستقبل التنمية، الفقر في مصر، نموذج التنمية المستقلة البديل لتوافق واشنطون وإمكانيات تطبيقه في زمن العولمة، الإقتصاد المصرى فى ثلاثين عاما بالاضافة الى كتابه المبدع الأخير عن تجديد الفكر الاقتصادى. وغيرها الكثير من الكتب والكتيبات والمحاضرات والمقالات التى تربت عليها اجيال كاملة داخل مصر وخارجها لمواجهة نموذج التنمية الاستعمارى.
وهو مفكر اقتصادى مشتبك مع القضايا الوطنية والسياسية، وعضو سابق فى حزب التجمع فى عصره الذهبى وعضو لجنة الدفاع عن الثقافة القومية التى تشكلت بعد توقيع اتفاقيات كامب ديفيد فى مواجهة التطبيع، ومن ابرز معارضى نظام مبارك ومؤيدى ثورة يناير. ولقد تم وضعه على القائمة السوداء بعد سلسلة المقالات الاتى كتبها فى جريدة الشروق أعوام 2013 و 2014 و2015 يطرح فيها رؤية معارضة ونقدية لما تم فى 2013 وما بعدها، والتى جاءت تحت عناوين مثل: ((من الخوف من الديمقراطية إلى التضحية بها)) .. ((مصر إلى أين؟ ملف حقوق الإنسان والديمقراطية)) .. ((قرأت مشروع الدستور ولن أقول نعم)) .. ((المؤتمر الاقتصادى.. معايير التقييم والحصاد)) .. ((فاجـعة الجامـعة)) وكتابات أخرى مماثلة وأكثر حدة فى تناولها وتحليلها للأوضاع السياسية والدستورية.
ورغم ان كثيرين من التيار الاسلامى يتبنون هذا الكلام ويرددونه، الا ان صدوره عن مفكر اشتراكى رفيع المستوى كان له وقع آخر.
ان الامثلة متعددة والشخصيات كثيرة اطال الله فى اعمارهم جميعا.
والحزن هنا لا يقتصر على أزمة الحريات والديمقراطية وحقوق ابداء الرأي والكتابة والنشر، وانما أيضا وبالأساس على الخسارة الفادحة الناجمة عن حرمان القراء والمهتمين والمتابعين، بكل اجيالهم وتنوعاتهم الفكرية والسياسية من الانفتاح على نوافذ ومرجعيات فكرية ثقيلة الوزن، كانت كتاباتهم واجتهاداتهم فى مختلف القضايا والمسائل تمثل اضافة مؤثرة لا يمكن تجاهلها من المختلفين معهم قبل المتفقين.
ان مثل هؤلاء الكتاب والمفكرين، كانوا وسيظلون من أهم المكونات الرئيسية للقوة الناعمة فى مصر وفى الأمة العربية، وحرماننا من اطلالاتهم علينا هو خسارة فادحة لا يمكن تعويضها.