زواج السلطان!!
هدأت نيران "ثورة 1919" لكنها بقيت تحت الرماد!
تم إعلان وزارة "محمد سعيد" المرفوضة شعبيا, ليكتشف الشعب بعدها بساعات.. أن أحد وزرائها سيصبح "حما السلطان المعظم"!! وكانت "باريس" تشهد تشبث "الوفد" ببقايا الأمل, حين استمر يخاطب أصحاب الضمائر لدعم قضية مصر.. ووسط هذه الحالة نشر "القصر السلطانى" ما كان يسمى وقتها "بلاغا" ونسميه فى زمننا "بيانا رسميا" يوم السبت 24 مايو 1914.
صاحب العظمة "السلطان فؤاد الأول" عقد قرآنه!
قراءة البلاغ – البيان – تحكى كل شئ.. تحمل التفاصيل.. نشرته كافة الصحف ليطلع عليه الشعب, كاتما غيظه.. ذرف الناس الدموع على الذين سقطوا شهدا بحثا عن استقلال وحرية وطن.. كان صعبا أن يتكلم أحد.. بل قل كان مستحيلا.. باستثناء واحد فقط قال كلمته شعرا.. كان اسمه "بيرم التونسى" ودفع ثمنا غاليا!!
قال البلاغ – البيان – بالنص: "نظر حضرة صاحب العظمة مولانا السلطان فؤاد الأول.. سلطان مصر المعظم بعين الحكمة العالية الدينية, إلى وجوب التمسك بما وصى به الدين الحنيف فى أمر الزواج.. والاهتمام به عملا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فرأى وفقه الله وأسعد أيامه.. إنجاز ما عقد عليه عزمه الشريف نحو ذلك.. وتم عقد القرآن السلطانى السعيد بقصر البستان صبيحة أمس.. السبت الموافق 24 شعبان سنة 1337 هجرية.. 24 مايو سنة 1919.. على سليلة بيوتات المجد والشرف.. حضرة صاحبة العظمة السلطانية نازلى.. وقد تولى مولانا السلطان أيده الله قبول العقد لنفسه وبنفسه, إجلالا لأحكام الشريعة المطهرة.. حيث كان الوكيل عن العظمة السلطانية حضرة صاحب المعالى والدها الماجد عبد الرحيم صبرى باشا وزير الزراعة حاليا.. بشهادة محمود شكرى باشا رئيس الديوان السلطانى العالى, وسعيد ذو الفقار باشا كبير أمناء الحضرة السلطانية.. وقد باشر صيغة العقد المبارك.. حضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد ناجى رئيس المحكمة العليا الشرعية.. بحضور حضرة صاحب الفضيلة الشيخ أحمد هارون رئيس محكمة مصر الابتدائية الشرعية.. وكان فى مقدمة المحتفلين بهذا العقد السعيد, حضرة صاحب السمو السلطانى الأمير كمال الدين حسين والأمير على حيدر فاضل.. والأمير يوسف كمال والأمير عمر طوسون.. وحضرة صاحب الدولة محمد سعيد باشا رئيس مجلس الوزراء.. وحضرة صاحب المعالى أحمد مظلوم باشا رئيس الجمعية التشريعية وحضرات أصحاب المعالى وكبار رجال الحاشية السلطانية.. رافعين أصدق عبارات التهانى الخالصة والدعوات الصادقة لعظمة مولانا السلطان"
صاحبة العظمة السلطانية "نازلى" هى نفسها الملكة "نازلى".
جلالة الملكة "نازلى" هى أم جلالة "الملك فاروق"!!
سيرة عظمتها – جلالتها – محفورة فى ذاكرة التاريخ.. تحملها الصحف الصادرة خلال آخر أيام الملكية.. وكلها فضائح تخرس ألسنة "خدم الملكية والاستعمار" الذين لا يذكرون هذه السيرة.. ويتجاهلون أن عظمة السلطان "الملك" فؤاد أعلن زواجه, وسط أكبر مأتم عاشته مصر.. وترك "الوفد" يبحث عن استقلال مصر, لكنه انشغل بالحرص على شرع الله!!
شهدت الإسكندرية فى اليوم التالى للزواج السلطانى, مظاهرة ضخمة سقط فيها شهيد وأصيب ضابط بريطانى، وبعد "فرح السلطان" بيومين خرجت من الأزهر مظاهرة ضخمة، كانت الهتافات تطالب بالاستقلال وسقوط الوزارة السعيدة!! ورأت السلطة تهدئة الخواطر بإصدار بيان يوم 28 مايو يبشر المواطنين بتخفيف القبضة العسكرية على البلاد.. لتسهيل تفرغ المسلمين لإحياء ليالى شهر رمضان المبارك, والاستماع إلى آيات الذكر الحكيم.. وصدرت الأوامر باجتناب كل ما يحول دون قيام المسلمين بشعائرهم وفروضهم وعاداتهم.. ويوم أول رمضان تم الإعلان عن قرار بالإفراج عن 12 معتقلا, واستقبلهم رئيس الوزراء فى مكتبه.. وفى الوقت نفسه تم القبض على وكيل مديرية المنيا.. ورئيس نيابتها.. وأحد القضاه فى المحافظة.. متهمين بسخطهم وسخريتهم من الحكومة!! ورفض "محمد سعيد" رئيس الوزراء الإفراج عنهم.. وترتب على ذلك أن أقدم "محمد أحمد بك" وكيل النيابة على الانتحار رافضا محاكمته بهذه التهمة!!
يوم 3 يونيو تم نشر مرسوم إعلان وزارة المواصلات.
تولى "أحمد زيوار" منصب وزير المواصلات, تاركا وزارة "المعارف" التى تولاها "أحمد طلعت" وحملت صحف يوم "8 يونيو" خبرا مفزعا.. محبطا.. للأمة حول خلاف بين أعضاء "الوفد" فى "باريس" وأن الخلاف أدى إلى انفصال – انشقاق – أربعة, وعزمهم العودة إلى مصر.. كان الأربعة هم: "إسماعيل صدقى" و"على شعراوى" و"جورج خياط" و"سينيوت حنا"!! رفض الشعب تصديق الخبر.. إتهموا الصحف التى نشرته بإثارة البلبلة.. إستمر الجدل لأيام طوال, حتى فوجئ الناس بعودة "إسماعيل صدقى" و"محمود أبو النصر" و"عزيز منسى" و"محمد عبد الخالق مدكور" و"محمد بدر" رئيس سكرتارية "الوفد".. ونشرت الصحف أن "سعد زغلول" أخطرهم بأن كل من "جورج خياط" و"سينيوت حنا" عادا إلى مصر لأسباب عائلية!!
كانت أيام "رمضان" من هذا العام صعبة.. وشهدت أيام العيد مظاهرات صاخبة!
حاول "محمد سعيد" رئيس الوزراء تهدئة شعب يرفض أن يهدأ.. صرح بأنه يبارك عمل "الوفد" وقال أن وزارته تقوم بدور الوسيط بين "الوفد" و"سلطة الحماية"!! أعادت هذه التصريحات إشعال الغضب ضد الوزارة.. تجددت المظاهرات رفضا لوصول لجنة "ملنر".. فعاد "اللنبى" إلى أسلوب المواجهة بالقوة وإصدار بيانات تحريم جميع الأموال, وتجريم أى مساعدة "للوفد" ورجاله.
يوم 2 سبتمبر حدث ما جعل مصر تهتز بعنف!
كان "محمد سعيد" رئيس الوزراء يمر قرب محطة "جناكليس" بضاحية "الرمل" بالإسكندرية.. إقترب من موكبه المواطن "السيد على محمد" من أهالى "كفر الزيات" وألقى عليه قنبلة, من سلة كان يحملها فيها عنب!! دوى صوت الانفجار, ونجا رئيس الوزراء.. وأدلى بتصريحات أكد فيها على أنه سيستمر فى عمله دون خوف من الذين يلقون القنابل.. لكن موقفه من "الوفد" راح فى اتجاه إعلان التقدير له ولأعضائه.. خاصة وأن رفض لجنة "ملنر" كان يتصاعد, والالتفاف حول "الوفد" يتضاعف.. وفشلت كل محاولات التمهيد لقدوم "ملنر" بالترويج إلى أنه يميل إلى منح المصريين حكم ذاتى يسمح بتمكين الشعب لإدارة شئونه!!
فى الوقت نفسه كانت مهمة "محمد محمود" فى الولايات المتحدة الأمريكية تلقى نجاحا.. فقد شهد مجلس الشيوخ الأمريكى يوم 18 أغسطس قيام أحد أعضائه واسمه "بواره" بإلقاء بيان عن الحالة فى مصر.. كان أشبه بمرافعة عن حق شعبها فى الاستقلال, وحفل بكل وقائع إدانة بريطانيا.. جاء فيه: "سنة 1882 دخلت انجلترا بمبادرة منها إلى مصر, بدعوى ضمان دفع الديون.. وأعلنت للعالم على لسان رجال حكومتها مثل جلادستون – رئيس الوزراء آنذاك – أنها جاءت إلى مصر لتسوية الديون وتذهب.. واستمرت تكرر هذا الكلام لما يقرب من 40 عاما.. وادعت بريطانيا أن حالة الحرب جعلتها تفرض الحماية على مصر, ونصبت على البلاد حاكما اختارته الحكومة الانجليزية!! ولما انعقد مؤتمر الصلح إنتخب الشعب المصرى من يراهم قادرين على عرض قضيته.. إعتقلتهم سلطات الاحتلال, ثم أطلقوا سراحهم.. وبعدها رفضوا منحهم جوازات سفر للحضور إلى الولايات المتحدة.. كل ذلك أدى إلى احتجاجات إنقلبت إلى حرب فى مصر.. وأستطيع القول أن مراجل الاستياء والثورة تغلى فى الشرق كله.. وأن الملايين يحتجون على الاحتلال الانجليزى.. وهى حالة تقلقنى خاصة إذا نفضت الولايات المتحدة يداها.. لأن ما فعله الانجليز فى مصر, حفر بيننا وبينهم هوة يستحيل أن تجعل المصريين يقبلون السيادة الانجليزية على بلادهم.. إن مصر كلها ترفض السيادة البريطانية.. فإذا وافق مؤتمر الصلح على ضياع استقلال نلناه من مائة عام.. أعتبره ظلما فادحا.. فهل يعقل أن يعاملوا الشعب المصرى معاملة السلع؟!"
نقلت الصحف الأمريكية بيان "بواره" الساخن!!
إحتلت قضية مصر مساحة كبيرة من الصحف والمناقشات فى دوائر صنع القرار الأمريكية.. أزعج ذلك الحكومة البريطانية.. كلفت سفيرها والجماعات التى تدعمها, بهجوم مضاد يقوم على تشويه الوطنيين المصريين, ويحاول أن يقلل من حجم وقيمة "الوفد".. لكن "محمد محمود" استطاع المواجهة بنشره "الكتاب الأبيض" الذى حمل تفاصيل قضية مصر, وحقها فى المطالبة باستقلالها.
كان "الوفد" وزعيمه يواصل الدفاع عن الأمل فى "باريس".
مصر كانت تتمسك بالأمل وتقاتل بما تملك من إرادة شعبية.
فشلت كل محاولات "المندوب السامى" فى أن تحجب أخبار ما يحققه "الوفد" من اختراقات فى جدران المواقف الرسمية.. خاصة ما شهده حفل نظمه "الوفد" دعا إليه ساسة فرنسيين يوم 2 اغسطس.. وقف خلاله مسيو "أوجاثبو" عضو مجلس النواب.. كان قبلها وزيرا للبحرية الفرنسية.. وتحدث بكل التقدير عن مصر وقضيتها ورجالها الذين يطالبون باستقلالها.. وقال فى كلمته: "لا نستطيع أن ننسى أيام حكم محمد على الذى اعتمد على الفرنسيين فى بناء بلاده.. فأطبائنا ذهبوا إلى هناك لتجديد علم الطب, وأذكر منهم كلوت بك.. كما ذهب عدد عظيم من علماء فرنسا ليسهموا فيما حققته مصر من نجاح" ثم أضاف قائلا: "جئنا لنؤكد لكم أننا لسنا ممن ينسى مصر, مهما تغلبت ظروف الحال على العدالة.. وسنذكر مصر بالعدالة لما بيننا وبينها من الروابط".. وتكرر هذا الأمر مع وفد من البرلمان الإيطالى الذى لبى دعوة "الوفد" وكانت "إيطاليا" هى الوحيدة من دول الحلفاء, التى لم توقع بالموافقة على الحماية البريطانية حتى هذا الوقت.. ووقف يومها "سعد زغلول" متحدثا ليقول: "مدنيتنا الفرعونية والعربية إشتركت مع إيطاليا فى نشر العلم والمعرفة.. وهذا يكفى لأن نقول أننا لسنا فى حاجة إلى وصاية أجنبية مهما كان مسمى هذه الوصاية".. وأوضح حقيقة الأوضاع بقوله: "لقد دفعوا الشعب المصرى وهو من أهدأ الشعوب إلى الثورة, لأنهم قضوا على الأمل.. وتركوه يعانى الإحباط.. ورغم هدوء الأوضاع حاليا.. إلا أن الحقيقة تقول أن شعبنا فى حالة ثورة عارمة"!!
إختلفت لغة "سعد زغلول" بفعل الالتفاف الشعبى حوله.
أدرك زعيم الأمة أن هذه لحظة تحدى.. إستجاب لها مع الذين بقوا حوله.. وبدد نضال الشعب إحباط "الوفد" وفجر فيه طاقة جديدة أقلقت الحكومة البريطانية, ومندوبها السامى فى مصر.. والذى وجد صعوبة فى تحديد موعد وصول لجنة "ملنر".. وأدهشته قدرة هذا الشعب على امتصاص الأزمات والتعامل مع الرصاص بتحدى وشجاعة نادرين.. يتبع