كل المؤشرات تؤكد حتى الآن أن الأزمة الأوكرانية هي مثال مشابه لأزمة الكاريبي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق. وانتهت بمعادلة بسيطة للغاية بعد أن كانت الأصابع على أزرار إطلاق الصواريخ. انتهت الأزمة بألا تهاجم الولايات المتحدة كوبا مقابل أن يسحب الاتحاد السوفيتي صواريخه ويعيد سفنه من عرض المحيط.
يبدو أن الأزمة الأوكرانية سنتهي بألا تهاجم روسيا أوكرانيا، مقابل أن تسحب الولايات المتحدة أسلحتها من الأراضي الأوكرانية.
لكن روسيا تطمح إلى أكثر من ذلك، وتسعى إلى الحصول على التزام بعدم ضم أوكرانيا وجورجيا وأي جمهورية سوفيتية سابقة إلى حلف الناتو. وكذلك إبعاد المجر وبلغاريا من الحلف، وعدم نشر أسلحة متوسطة وقصيرة المدى وقوات في دول أوروبا الشرقية، وتوقيع اتفاقيات مكتوبة وملزمة في كافة مجالات التسليح وأنواعه، للوصول إلى نقطة انطلاق جديدة تبدأ منها موسكو في توسيع نفوذها من جديد (هكذا هي السياسة الكبرى، وهكذا هي الدول ذات النزعات الإمبريالية).
لكن مشاكل الولايات المتحدة والغرب مع روسيا تتمثل في انعدام الثقة، وأن ما فعلته روسيا مع شبه جزيرة القرم قد تفعله مع إقليمين أوكرانيين في جنوب شرق أوكرانيا هما "دونيتسك" و"لوجانسك". ومهما تعهدت روسيا وأقسمت على المصحف والإنجيل، فالسياسة الكبرى لا يوجد بها قسم أو حتى معاهدات مكتوبة وموقعة. عندما تحتم الظروف على تنفيذ إجراء عسكري ما، لا يمكن إيقاف ذلك، ولا أحد أو اتفاقية يمكنهما وقف ذلك.
وفي الحقيقة، والغرب يعلم ذلك جيدا، أن روسيا يمكنها أن تعترف باستقلال هذين الإقليمين، لأنها قامت بتغيير تركيبتهما الديمجرافية، ونجحت في عزلهما عمليا عن أوكرانيا. ويمكنها أن تضم هذين الإقليمين أيضا فيما بعد لو تطلب الأمر. بل ويمكنها أن تقوم بعدة إجراءات عسكرية وأمنية لتغيير النظام السياسي في كييف أو التهام كييف نفسها، أو على الأقل شرق أوكرانيا، وهو البيضة التي تبيض ذهبا لأوكرانيا كلها.
الغرب والأوكرانيون يعرفون ذلك جيدا بعد تجربة شبه جزيرة القرم. ومقابل أن تتوقف روسيا عن كل هذه الخطوات، فإنها تطلب ثمنا غاليا، ألا وهو تفكيك حلف الناتو عمليا، أو تجميد نشاطه أو تحويل نشاطه إلى نشاط خيري. وهو ما لن يحدث أبدا حتى لو غامرت روسيا والصين وكوريا الشمالية وفنزويلا وإيران وبيلاروس وطاجيكستان وقيرغيزستان بتشكيل حلف سياسي عسكري أمني نووي!!!
روسيا تطالب الولايات المتحدة بحوالي 90 طلبا، لا يمكن تحقيق إلا اثنين أو ثلاثة منها. وهو ما سيحدث سواء قبلت روسيا أو رفضت، لأن موازين القوى تميل لصالح الولايات المتحدة وأوروبا عسكريا وأمنيا واقتصاديا ورقميا. أما الولايات المتحدة فهي تطالب روسيا بإعادة القرم إلى أوكرانيا وبعدم الهجوم أو الاعتداء على جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق التي ترفض النفوذ الروسي ووصاية موسكو، وهذان المطلبان يقبعان في الخلفية. بينما المطالب الظاهرة والمباشرة هي تقليص المناورات العسكرية التي تقوم بها روسيا لتهديد الدول الأوروبية عموما، ودول أوروبا الشرقية وجمهوريات الاتحاد السوفيتي التي ترفض وصاية روسيا، وكذلك صياغة اتفاقية جديدة بشأن الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى. وتوقيع اتفاقية بهذا الصدد سيُبْطِل لروسيا مفعول كل أسلحتها التي أعلنت عنها وعن قدراتها الخارقة. أي أن الصدأ سيأكلها بعد عدة سنوات، وتكون موسكو بذلك قد بددت مواردها وجففت ميزانياتها وخزائنها من أجل هذه الأسلحة التي تباهت بها وهددت بها كل الدول الأوروبية.
وفي كل الأحوال، وفي حال التفاؤل وحسن النوايا، لن تحدث مصالحات، ولن يكون هناك شهر عسل بين موسكو وواشنطن. ستكون صيغة "لا غالب ولا مغلوب" هي الصيغة الطاغية. وسيلعب الإعلام من كلا الجانبين دوره التضليلي والتزويري من أجل خداع الرأي العام المحلي والعالمي مصورا انتصار هذا الطرف أو ذاك. ولكن هذه الصيغة ستأخذ وقتا لكي تتبلور. ثم تأتي مرحلة تحضير الوثائق للتوقيع. وهذا سيستغرق سنوات وليست أشهر أو أسابيع. خلال كل هذه السنوات ستكون العقوبات قد أثرت على روسيا. وهي بالفعل تؤثر منذ فرضها في عام 2014، ولكن روسيا تقاوم وتواجه الأمر بقدر الإمكان مع خسائر واضحة وتعطيل مجالات كثيرة مهمة للمستقبل. أما الولايات المتحدة وأوروبا فستمعنان في تصلبهما بشأن التطبيق الصارم للعقوبات أو رفعها فيما بعد كليا أو جزئيا، بصرف النظر عما ستدليان به من تصريحات دبلوماسية وسياسية عن الإنسانية والتسامح والأخوة وإغاثة الملهوف. فالعقوبات الغربية على روسيا لا تهدف فقط لمعاقبة موسكو والنخب البوتينية الحاكمة فقط، بل وتهدف أيضا لتعطيل روسيا وفرملة تقدمها العلمي- الرقمي، والعلمي- التقني، والاقتصادي، والحد من نفوذها في مناطق مثل أفريقيا وجنوب شرق وشرق آسيا. وروسيا بالفعل لديها مشاكل اقتصادية وتقنية- رقمية بالفعل. وهي تتأخر أيضا رقميا وتقنيا، والصين تتجاوزها بمراحل في مجالات عديدة، الأمر الذي يعكس بعض مؤشرات المستقبل في العلاقات بين موسكو وبكين، لأن السياسة الكبرى هي سياسة برجماتية وسياسة مصالح ولا يوجد فيها اتفاقيات أو أخوة وإنسانية ومساواة. أي أنه كلما توحشت الصين، زادت المخاطر على روسيا وليس على أوروبا أو الولايات المتحدة، مهما أدلت الصين وروسيا بتصريحات عن الأخوة والإنسانية والنضال ضد الإمبريالية والرأسمالية العالمية.
الصين تعمل بمفردها، وتقف لوجستيا ونظريا مع روسيا. لكن مصالحها الكبرى اقتصاديا وعلميا وتقنيا ورقميا مع الغرب عموما، ومع الولايات المتحدة على وجه الخصوص. هذا بصرف النظر عن التصريحات الساخنة أو الحادة التي تطلقها بكين بين الحين والآخر ضد الولايات المتحدة، لأن هذه تصريحات للاستهلاك المحلي، ولإقناع الرأي العام الداخلي بأن الثورة الاشتراكية قاب قوسين أو أدنى، وأن الحزب الشيوعي الصيني هو قائد قاطرة الاشتراكية والإنسانية والتقدم والعدالة الاجتماعية... كما أن وهم العداء بين الصين والولايات المتحدة يشكل هاجسا أو شكلا من أشكال الأسطورة الإيمانية لدى سكان الشرق الأوسط والمحللين العرب الذين يحنون إلى الحرب الباردة والحلم بوجود معسكر ينضوون تحته ويرفعون شعارات الاتحاد الاشتراكي والبعث العربي الوحدوي المجيد. لكن تصورات وأوهام وسيناريوهات النخب العربية هي رهينة كوابيسهم وحبيسة رؤوسهم فقط، بينما العالم يسير في اتجاهات أخرى تماما.
في كل الأحوال، الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يلعب حاليا دور حمامة السلام بين روسيا وأوكرانيا. وبطبيعة الحال، هذه معادلات وصيغ ومواءمات أوروبية، وأوروبية- أمريكية، لا علاقة لها بالعرب أو حتى بروسيا والصين. علما بأن فرنسا لن تخرج عن الإجماع الأوروأطلسي مهما حدث، وأن أوهام روسيا وأحزاب البعث الوحدوية العربية حول انشقاق فرنسا وخروج بريطانيا كلها باطلة وشبيهة بنفس أحلامهم إبان الحرب الباردة عندما قضوا على أمريكا والغرب في أحلامهم وبحات أصواتهم وبين سطور شعاراتهم الساخنة التي كانت تتصبب عرقا ومجدا وانتصارا على الدوام...