الوفد و"الصدمة"!!
كانت "القاهرة" ترفض أن تنكسر.. وكانت "لندن" تكذب وتتآمر لتجاوز أزمتها.. واختارت "واشنطن" أن تعلن عن وجودها بأحدث أنواع "النصب" على الشعوب!! وشهدت "باريس" حيث انعقد مؤتمر الصلح.. أزمة "الوفد المصرى" وصدمته المروعة!!
فوجئ "سعد زغلول" مع أعضاء "الوفد" باستقبالهم بأخبار صادمة.. الرئيس "ولسن" إعترف بالحماية البريطانية على مصر.. مع آخرين.. صحيفة فرنسية تقول: "إن الحركة القائمة فى مصر بعد أن بدأت سياسية بحتة.. أخذت العناصر المتعصبة فى الأزهر دفتها"!! فى الوقت نفسه يتم إجبار "المانيا" على الاعتراف بالحماية البريطانية على مصر.. وجد "الوفد" نفسه محاصرا.. بل قل محبوسا.. طلبت منهم السلطات الفرنسية طلب إذن للتحرك هنا أو هناك.. سمحت قواعد وقوانين الديمقراطية – عندهم – لعضو الوفد "إسماعيل صدقى" أن يرد, وتنشر الصحف رده الذى جاء فيه: "صدمتنا بالغة حد القسوة باعتراف أغلب الحلفاء بالحماية البريطانية على مصر.. كنا نعتقد أن الأمل كبير فى مبادئ الدكتور ولسن وأنها يمكن أن تتحقق"!!
وضح أن رهان "الوفد المصرى" كان على مبادئ "ولسن"!!
راجع تصريحات "حسين رشدى" التى قال فيها أن الأمل فى "الولايات المتحدة الأمريكية" ولعله كان صادقا لظروف زمنه, وقدر استيعابه لما يحدث حوله.. لكن الزمن دار دورته وظهر فى مصر من يقول أن: "99% من أوراق اللعبة فى يد أمريكا"!! قائل هذا الكلام كان رئيسا للجمهورية.. وقائله كان قائدا عسكريا لأول انتصار على إسرائيل, التى كانت وقتها مجرد فكرة حصلت على "وعد بلفور"!! وقد عبر "إسماعيل صدقى" عضو "الوفد المصرى" عن الصدمة من سلوك أمريكا.. ودارت عجلات الزمن.. أمريكا تمارس النصب نفسه.. قادة دول يستحلبون هذا "النصب الأمريكى" باستمتاع!!
حاول "سعد زغلول" إستيعاب الصدمة بتنظيم عمل "الوفد" فقرر أن يقوم عمله عبر ثلاث لجان.. كانت الأولى يتولاها الرئيس – سعد زغلول – ومعه "على شعراوى" و"عبد اللطيف المكباتى" وهى لجنة الشئون المالية.. والثانية مهمتها التعامل مع الصحافة والنشر ويتولاها "إسماعيل صدقى" ومعه "عبد العزيز فهمى" والدكتور "حافظ عفيفى" و"ويصا واصف".. واللجنة الثالثة تكون مهمتها تنظيم الحفلات والدعوة لها.. وتقرر أن يتولاها "إسماعيل صدقى" ومعه "حسين واصف" و"جورج خياط" وتقرر أن يبدأ "الوفد" عمله بزيارة مقرات رؤساء الوفود المشاركين فى "مؤتمر الصلح" وتركوا لكل وفد بطاقة باسمهم.. لم يرد أحد منهم, باستثناء رئيس الوفد الإيطالى.. وركز "الوفد" جهوده على صاحب "مبادئ الحرية" الرئيس الأمريكى "ولسن".. فأرسلوا طلبا لمقابلته يوم 22 ابريل مع رسالة تشرح باختصار تفاصيل أزمة مصر وحقوقها.. لم يصل رد على الطلب.. قرر "الوفد" أن يكرر الطلب يوم 29 ابريل برسالة كتبها "سعد زغلول" حملت كل التقدير والاحترام.. وجاء فيها: "إعتمدنا على وعدكم أنكم لن تراعوا سوى رخاء الشعوب التى ستتناولها التسوية العامة.. ولهذا السبب كانت صرخة.. ليحيى ولسون.. تتردد فى أرجاء البلاد.. كأنها صدى الحرية المقبلة"!! وكان "سعد زغلول" قد هتف بالمعنى ذاته خلال المؤتمر الذى تم تنظيمه فى بيت "حمد الباسل"!! وأوضحت الرسالة ضمن ما ذكرت بالشرح: "إهتمامكم الذى امتد إلى شعوب, كانت حتى الأمس جزء من الإمبراطورية العثمانية القديمة.. فأبى أن تنتقل من سيادة إلى أخرى كالسلع"!!
إعتمد "الوفد المصرى" على المنطق والحقيقة والضمير فى شرح قضيته!!
كان العالم قد اعتمد صوتا واحدا إسمه "صوت القوة"!!
فوجئ أعضاء "الوفد" بأن الصحفيين لا يفهمون قضية مصر.. بل يرونها أنه لا علاقة لها بالمدنية.. تمارس الوحشية ضد من يحاولون تطويرهم, والأخذ بيدهم إلى الحياة المدنية.. معلومات الصحفيين لا تتجاوز حدود الغرائب والطرائف عن المجتمع المصرى.. هكذا كان فهمهم!!
قرر "الوفد" دعوة أكبر عدد من الصحفيين ليشرح قضية مصر.. وقف "محمد محمود" الذى يجيد الانجليزية أمامهم شارحا قضية مصر والأزمة التى يعيشها شعبها, وانتهى إلى أنه "إذا كان هناك شعب يستحق التأييد والعطف, من أولئك الذين جعلوا سعادة الإنسانية ورخائها هدفهم الأكبر.. فإن ذلك الشعب هو الشعب المصرى"!! ومضى يشرح حكاية "الوفد" ورحلته من "القاهرة" التى أدت إلى القبض على رموزه, وحبسهم فى "مالطا".. ثم الإفراج عنهم والسماح لهم بالسفر إلى "باريس".. حتى وصل إلى توضيح قال فيه: "إدعوا أن حركتنا دينية.. رغم أنهم رأوا أن مسيحيى مصر ومسلميها متحدون اتحادا قويا.. وكان المسيحيون فى مقدمة المتظاهرين.. وكان منهم من سقطوا شهداء برصاص جنود بريطانيا.. وبين أعضاء الوفد المتواجدين بينكم خمسة من المسيحيين"!! ثم أكد فى كلمته على أن: "حركتنا أيها السادة والسيدات.. لم تكن ذات صبغة دينية ولا عدائية للأجانب".. وأنهى كلمته قائلا: "إن مصر وأبناء الفراعنة يتم معاملتهم كالسلع والأغنام, التى تنتقل من يد لأخرى تنفيذا لتوازنات العلاقات السياسية.. لكننا نعتمد على مبدأ الحرية والعدالة التى أعلن الدكتور "ولسن" أنها ستكون أساسا لسلام العالم.. ونعتمد على عدالة قضيتنا.. وعلى عطفكم وتأييدكم"!!
كانت لغة "الوفد" تعتمد على الحق.. أمام من يجيدون "لغة القوة"!!
كان "الوفد" يخاطب الضمائر.. والذين يسمعونه لا يفهمون فى غير "حساب النفوذ"!!
تلقى "الوفد" صدمة جديدة بتوقيع "المانيا" على اعترافها بالحماية البريطانية على مصر.. جاء ذلك ضمن شروط الصلح التى أرغموا "المانيا" على قبولها.. إضافة إلى إسقاط حقوقها لدى مصر باتفاقيات مسبقة لحساب انجلترا!! وذلك دعا "سعد زغلول" إلى كتابة رسالة مطولة إلى المجتمعين فى "مؤتمر الصلح" لكشف أسباب رفضه لما تم فرضه على المانيا فيما يخص مصر!!
عاد "الوفد" باسم رئيسه – سعد زغلول – يطلب لقاء "ولسن"
ظهر من يختلف مع "منهج الوفد" من داخله.. عبر عنه "عزيز منسى" مستشار الوفد.. قال لهم.. لقد جئنا ليسمعنا مؤتمر الصلح.. وطالما أنهم يرفضون سماع أصواتنا, علينا العودة إلى مصر وإبلاغ شعبها بالنتائج.. وهنا انقسم الوفد.. بعضهم اتفق مع هذا الرأى.. وكان آخرون يرون ضرورة التشبث بالأمل.. وأمام نتيجة هذا الانقسام, طلب "عزيز منسى" الانسحاب.. توجه إلى السلطات الفرنسية راغبا فى السماح له بالعودة إلى مصر.. ما كان يمكن أن يحدث ذلك دون موافقة قنصلية انجلترا فى باريس!! وعقد "الوفد" اجتماعا يوم 26 مايو ناقش فيه نتائج أعماله.. وانتهى الاجتماع حين قال "سعد زغلول" لهم: "عملنا الآن ليس إلا تنظيما للهزيمة"!!
قبل أن يعلن "الوفد" تسليمه بالهزيمة.. قدم "الوفد" احتجاجا على ما يحدث جاء فيه: "رغم اعتراف رئيس الولايات المتحدة الأمريكية بالحماية الانجليزية على بلادنا.. ورغم اجماع اربع وعشرين دولة على طلبها من المانيا الاعتراف بالحماية.. وبرغم وحشية الوسيلة التى استخدمها الانجليز لتثبيط رجاء شعبنا ومقاومة أمانيه فى أن يكون حرا.. فإن الحالة فى مصر لا تزداد إلا حرجا يوما بعد يوم".. وجاء فى الاحتجاج: "لو فرضنا أن مصر أنزلت إلى درك الأرقاء.. أفلا كان يجب أن تظل صاحبة الحق فى اختيار سيدها وطريقة حكمها"!! ثم انتهى إلى القول: "حالة بلادنا اليوم تدعو إلى اليأس أكثر منها عام 1841.. لأن الأصدقاء الذين اعتمدنا على مساعدتهم.. وأعدائنا اتفقوا على وضع قيود الاستعباد فى رقابنا إلى الأبد"!!
وضح أن "منهج الوفد" ولغته تقومان على براعة المرافعة!!
وكان واضحا – أيضا – أن الدول الكبرى تمارس لعبتها!!
تمسك "الوفد" ورئيسه بالحق والمنطق والعدل.. وتمسك القائمون على "مؤتمر الصلح" بأن القوة تصنع الحق.. والعدل هو النفوذ.. والمنطق هو الذى نتفق عليه ككبار لهذا العالم!!
تشاور أعضاء "الوفد" وكان رأى الأغلبية التمسك بالأمل.. إنتهوا إلى أهمية الذهاب إلى "الولايات المتحدة" لمخاطبة شعبها ونخبتها أن يساندوا حق مصر.. تم تفويض "محمد محمود" للقيام بالمهمة, بعد أن وجد "سعد زغلول" أن الرحلة ستكون شاقة عليه.. حمله رسالة رئيس "الوفد" وكان ضمن تفاصيلها: "لقد عاملوا أبناء الفراعنة معاملة السلع التى تباع وتشترى.. وإن المصريين ليعتمدون اعتمادا تاما على مساعدة الشعب الأمريكى محب الحرية, فى تحقيق الآمال القومية كشعب حكموا عليه بالاستعباد الأبدى.. من غير أن يسمعوا دفاعه"!!
إختار "سعد زغلول" أن تكون تلك اللغة لمخاطبة الشعوب والمسئولين.
سمعت قلة ضئيلة صوت ومنطق "الوفد".. لكن الأغلبية والذين يعبرون عنها كان لهم رأى آخر.. موقف آخر.. واعتبر البعض أن صدى الصوت الخافت, ويمثله بعض أعضاء مجلس الشيوخ والنواب الأمريكيين أملا يمكن البناء عليه!! وشعر "الوفد" بالأمل حين وقف "والش" عضو مجلس الشيوخ يوم 25 يونية خلال جلسة رسمية, واتهم الوفد الأمريكى إلى مؤتمر الصلح بخيانة المبادئ التى ذهب إلى "باريس" للدفاع عنها!! إعتبر البعض أن أول الغيث قطرة.. وكان صحيحا.. وجاءت بعده قطرات.. لكن الحقيقة والقرارات يوقعها القائمين على السلطة!!
عندهم ديمقراطية يحترمونها.. لا يجوز عدم تقديرها!!
وعندنا الديمقراطية يتم الاحتفاء بها إذا خدمت مصالحهم!!
عندهم صوت النائب له قيمة.. وعندنا كل مجلس النواب يساوى جزء من قيمة الحاكم.. فعندهم النائب يمثل أمة وإرادتها.. وعندنا النائب يمثل صاحب السلطة.. تلك قاعدة أجهدوا أنفسهم لإرسائها, ويخدعون شعوبهم بأنهم ضدها.. تلك ليست قصة جديدة.. لكنها قديمة وعلى أساسها تم بناء ما نخدع أنفسنا به على أنه "ديمقراطية"!! ومازالت التفاصيل تحمل الكثير من الوقائع والمعلومات.. يتبع