أخر مرة شفت فيها حمدي منصور كانت يوم السبت 2 نوفمبر 1985.
كان بيتنا في مدينة الطلبة يستقبل المعزين في والدي الذي مات ودفناه بالأمس. وضعنا منضدة الطعام إلى جانب الحائط وامتلأ البيت بكراسي الخيزران ذات المقاعد الجلدية المثقوبة أغلبها من سجائر مستخدميها. تأتي هذه المقاعد من مكاتب الفراشة ولا ادري من الذي يأتي بها وكانها تعرف من مات وتذهب لبيته وحدها. كل دقيقتين يدخل أحد الأصدقاء من الباب المفتوح ونستقبله بأحضان باكية. يدخل الناس غير مصدقين بعد ان قرأوا خبر وفاة فؤاد حداد في مربع صغير عند كمال الملاخ في آخر صفحة في الأهرام. الباب مفتوح والجيران والأقارب يدخلون ويخرجون والشاي والقهوة والمطبخ مليء بالفتيات وشرائط الشيخ غلوش في الكاسيت يقرأ القرآن بصوته الجميل.
ثم رن جرس الباب ولم يدخل أحد. قمت مسرعًا، لا بد ان ضيفا غريبا أتى للتعزية ويخجل من الدخول دون استئذان. ولكني وجدت حمدي منصور القناوي الشاعر الصديق الجميل الذي أتى لنا مرات كثيرة جدا. ولكنه انقطع عن الحضور لمدة طويلة. قلت له ازيك يا حمدي قال لي وهو ينظر لي بعين عائمة : عمي فؤاد موجود؟ قلت له: بابا مات يا حمدي فاندهش اندهاشة لا تتناسب مع الموقف رافعًا حاجبيه قائلًا: ياه
اتفضل
دخل وجلس على كرسي مستندا إلى الحائط وجلست بجانبه صامتين. كان صمته مسيطرًا على المكان فصمت الجميع. لم يبك ولم يتبادل مع احد كلمات العزاء ولم يبد حزنا أو قلقا، فقط يجلس صامتًا والشيخ غلوش يرتل: " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات وَأَقَامُوا الصَّلَاة وَآتَوُا الزَّكَاة لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْد رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ".
ثم قام ومضى ولم أره من يومها ولن أراه فقد مات حمدي يوم السبت 22 يناير 2022.
حمدي أخو عبد الرحيم الذي جاء إلى أبي بملابسه العسكرية في 1974 وجلس أمامه في البلكونة المتصلة بغرفة المكتب. عسكري مصري صعيدي نراه كل يوم في الأتوبيس وفي الشارع يتكلم بصوت عال وضحكته جميلة. كان من عادتنا أن نجلس مع ابينا وضيوفه في البلكونه. بعد ان مشي حمدي رسمته بالقلم الجاف من الذاكرة جذبتني جبهته الغريبة التي تلتقي مع رأسه فجاة ثم ترتفع ثم تنحدر. أخذ ابي الرسمة ووضعها أمامه على المكتب.
حمدي كان متأثرا بالحرب وبالتجربة الرهيبة التي قربته من الموت جدًا. كان مكانه في التشكيل على الجبهة أثناء الحرب خلف عسكري الاستطلاع وأمام عسكري الاتصالات. هذه التفصيلة لست متأكدًا منها تمامًا فكلام حمدي يبعد عني الآن حوالي 48 سنة. المهم أنه في الوسط بين قوات العدو وقواتنا. يمكن أن تصيبه نيران العدو أو النيران الصديقة.
وبدأت المعركة وقامت دبابات إسرائيل بهجوم كبير استلزم التراجع فعاد راكضًا وخلفه دبابة إسرائيلية. يجري وينظر إليها وهي وراءه. ثم وقع حمدي في خندق أو حفرة لم يستطع الخروج منها واقتربت الدبابة منه فأيقن أنه ميت لا محالة ونطق بالشهادتين. ولكن القوات المصرية ضربت الدبابة وهي على بعد مليمترات من رأسه. كان قد جرح وجاء زملاؤه فأخرجوه من الحفرة ووضعوه جانبًا وراحوا ليستكملوا المعركة.
كان جريحًا لا حول له ولا قوة ينام على الرمل ويمكن أن يموت في اي لحظة.
بعد فترة والمعركة دائرة جاء زملاؤه بعسكري إسرائيلي جريح وألقوه بجانبه. التفت حمدي إلى جانبه فوجد العسكري الإسرائيلي مفزوعًا لأنه وقع أسيرًا ويبدو أن جرحه كان خطيرًا. نظر له الإسرائيلي خائفًا وقال له "موخامد" مستعطفًا وكأنه يقول أنا مثلك ونظر له حمدي وقال لنا: في هذه اللحظة كانت الإنسانية هي المسيطرة على إحساسي. أعرف ان معركتنا عادلة وإسرائيل عدو غاشم ولكني أنا وهذا الأسير إنسانان في نفس الموقف تمامًا ولا نستطيع أن نقرر شيئًا في مصيرينا. كنا تحت رحمة الجروح ولمن ستكون الغلبة في نهاية المعركة.
كان يقول الشعر ممدودًا كالعديد:
والصاروخ بات في الميضة
وقامت في الجامع عيطة
او يقول اغنيته الرقيقة:
زماني قمري عدى
وانا خدي على وردة
وراسي على وردة
أنام تبقى مخدة
وانام تبقى سرير
كان لطيف الطلة يختفي ويظهر ونفرح دائمًا بقدومه.
إلى ان مات عبد الرحيم منصور. وجاء مرة واحدة بعدها. ثم اختفى.
كنت أفتقده كلما تذكرته وناديته مرة في شعري في حلاوة الروح:
فاكرنى يا حمدى منصور
ارجع إلينا يا ولدى
مابقاشى فيه ضلمة و لا نور
سيبك من الورد البلدى
سيبك من القمر المكسور
و أجّل الحزن لبكرة
فاكرنى يا وجه يا قبلى
ياللى ما زرتكش من قبل
فاكرانى يا غزالة يا جبلى
فاكرنى يا سايس الاصطبل
فاكرنى يا احمد يا إبنى
ياللى انت سنك من سنّى
أبوك خلاص .. مابقاش له صبر
يأجل الحزن لبكرة
سألت مرة أبي مفيش أخبار عن حمدي قال لي أن واحدًا أخبره انه يمشي في الشارع ويقول أنا لاجئ سياسي.
ثم ظهر يوم السبت 2 نوفمبر 1985 ومضى.
سمعت عنه اخبارًا من الصديق عبد الرحيم طايع ثم قابلت ابنته الشاعرة مي منصور.
حين أذكره الآن أراه في البلكونة مع أبي في ليلة صيفية ولكن زاوية الرؤية من خارج البلكونة اقترب منها وآخذها بعيني واطير بهما بين النجوم والقمر. ابي ببيجامته الصيفية ينظر لحمدي ويبتسم وهو بزيه العسكري يغني بصوته العالي وبنشاز جميل ومحبب كما كان يغني في السبعينات من شعر فؤاد حداد:
أول كلامي سلام
وتزققيني الكلام
أيام في حضنك أنام
القلب الابيض هنا
يا مصر يا أمنا
واطلع في نور الأدان
إذا دعا الوالدان
المدرسة والميدان
الإنسانية هنا.