بدأت الولايات المتحدة التصعيد ضد روسيا قبل عدة أشهر عندما اقترب اكتمال خط السيل الشمالي2. وكان الهدف الصريح هو وقف تعميق الاعتماد الاقتصادي المتبادل بين ألمانيا وبعض الدول الأوروبية من جهة، وروسيا من جهة أخرى في معادلة تعزز دور موسكو في إمداد أوروبا بالطاقة. وصحيح أن الولايات المتحدة فشلت في مساعي تصدير الغاز الأمريكي لأوروبا لعدم جدوى المشروع اقتصاديا لأن الغاز الأمريكي أعلى تكلفة من الغاز الروسي أو الجزائري أو حتى الغاز القادم من دول شرق المتوسط. كما أن نقل الغاز الأمريكي لأوروبا مسالا على الناقلات أو غازيا من خلال أنبوب يعبر الأطلنطي يبدو مشروعا خياليا باهظ التكلفة لا يمكنه منافسة الغاز الروسي، لكن واشنطون لم تستسلم بالمقابل لمسألة تزايد اعتماد أوروبا على الغاز الروسي بما يعنيه بالمقابل من تأمين مصدر دائم وكبير للنقد الأجنبي لروسيا. وفرضت الولايات المتحدة عقوبات على الشركات المشاركة في تنفيذ المشروع، لكن روسيا اعتمدت على شركاتها وأكملته بالفعل وأصبح أمرا واقعا جاهزا للانطلاق ونقل نحو 55 مليار متر مكعب من الغاز الروسي سنويا بشكل مباشر عبر بحر البلطيق لألمانيا وأوروبا عندما تتجاوز تلك الدول الرفض الأمريكي. وكانت ألمانيا قد أصرت لأسباب اقتصادية على المضي قدما في الاعتماد على الغاز الروسي خاصة وأن روسيا لم تستخدم إمدادها لأوروبا بالطاقة بشكل سياسي حتى في أحلك لحظات الخلاف بين الطرفين. وبدأت المماحكة بأن الخط الجديد سيحرم أوكرانيا من مصدر للدخل والغاز الرخيص إذا استغنت روسيا عن نقل الغاز لأوروبا عبر الخط الذي يمر بأوكرانيا. ومن باب إبطال الذرائع تجرعت روسيا السم وتعهدت بعد مفاوضات مع ألمانيا باستمرار نقل الغاز عبر أوكرانيا لمدة 10 سنوات قادمة. ولم تجد واشنطون وسيلة لعرقلة المشروع سوى تسخين الجبهة الأوكرانية-الروسية خاصة وأن أتباعها الذين يحكمون أوكرانيا منذ الانقلاب على الرئيس المنتخب فيكتور يانكوفيتش قبل 8 سنوات ينفذون ما تطلبه منهم كأي دمية لا تملك من أمرها شيئا. واشتعلت المناورات وبعض المواجهات في البحر الأسود. وبدأت أوكرانيا في حشد قواتها ضد جمهوريتي دونتيسك ولوجانسك المعلنتان من جانب واحد في منطقة الدونباس التي تقطنها غالبية روسية كاسحة، وحشدت موسكو قواتها على الجانب الروسي من الحدود وأعلنت صراحة أنها لن تسمح بنقض اتفاقية مينسك للتسوية في تلك المنطقة وأنها سوف تدافع عن الروس الذين يقطنونها إذا هاجمتها أوكرانيا بدعم غربي، وأعلنت رفضها القاطع لانضمام أوكرانيا لحلف الأطلنطي (الناتو) أو تمدد الحلف ونشر أسلحته في جورجيا صوب قلب روسيا.
وبغض النظر عن مسار التصعيد فإنه موجه في الحقيقة ضد ألمانيا التي تدرك أن روسيا دولة رأسمالية وأن تعميق التعاون الاقتصادي معها على أسس اقتصادية يدعم السلم والأمن في أوروبا بما يقلل حاجتها وتبعيتها للولايات المتحدة. وبالتالي رفضت ألمانيا تقديم أسلحة لأوكرانيا حتى لا تؤجج نار الصراع، ووعدت بتقديم مستشفى ميداني في حالة انفجار الصراع، وهو ما ردت عليه أوكرانيا بإدانة ألمانيا وموقفها. وتدرك ألمانيا بالذات أن الحصار والضغط المتواصل على قوة عسكرية عظمى مثل روسيا يمكن أن يخرج عن السيطرة ويؤدي لحرب لا تبقي ولا تذر ستكون هي أول ضحاياها. وبالمقابل تريد واشنطون استمرار العداء مع روسيا بشكل محكوم يؤدي لإبقائه ويتفادى انفجاره الكلي. وتعمل واشنطون بالتالي على إفشال المساعي الألمانية لتعميق التعاون الاقتصادي الأوروبي-الروسي كآلية لتعزيز السلام. وتعتبر الولايات المتحدة العداء مع روسيا وترهيب أوروبا منها آلية لاستمرار إخضاع القارة العجوز بدعوى حمايتها من العملاق العسكري الروسي بعد أن تزعزعت العلاقة بين ضفتي الأطلنطي في عهد ترامب.
وكالعادة تعمل بريطانيا بدأب كخادمة للسياسات الأمريكية وآلة لإطلاق قنابل الحرب الدعائية ضد روسيا بالحق نادرا وبالباطل غالبا سواء في قضية العميل سكريبال الذي خان بلاده وتخابر مع بريطانيا أو بشأن الغزو الروسي الوشيك لأوكرانيا. ويعد استمرار العداء الأمريكي مع موسكو المحرك الرئيسي لعجلة الصناعات العسكرية الأمريكية بدعوى مواجهة روسيا، علما بأن المجمع الصناعي-العسكري الأمريكي النافذ سياسيا ساهم في الرفض الأمريكي لانضمام روسيا للمنظومة الغربية في عهد يلتسين التابع كليا للغرب في أكثر التعبيرات تهذبا، لأن وجود روسيا على طرف النقيض فعلا أو اصطناعا هو مصلحة استراتيجية لذلك المجمع الصناعي-العسكري. ويعد ذلك المجمع إمبراطورية حقيقة للشر إذ يقتات على استمرار تسليح المواطنين في الداخل رغم ما ينجم عنه من جرائم مروعة، وعلى إشعال الحروب وتأجيج الصراعات في الخارج حتى ولو على حساب دافعي الضرائب الأمريكيين والأمن والسلم العالميين. وعلى الأرجح ستتمكن ألمانيا التي يشكل اقتصادها ماردا حقيقيا قابضا على قلب أوروبا من تمرير موقفها العقلاني مع الضغط على روسيا لإبداء بعض المرونة، إلا إذا غامرت الولايات المتحدة بتفجير الوضع كليا على جبهة شرق أوكرانيا والبحر الأسود وعندها قد ينتهي الصراع المحكوم وتبدأ الحرب المجنونة التي يصعب التكهن بالحدود التي ستقف عندها لأن مجرياتها يمكن أن تفتح بوابات الجحيم على الجميع.