نفذ وعيده وقذف بالجثة الأولى: طفل في العاشرة ...
ولولت أمه، مرغت رأسها في دمه النازف من عنقه المذبوح، وقف أبوه في صمت يرتعد وينتحب، بينما تجعدت جبهة "كبيرهم" وتشاغل بتنظيم لوحة النجوم فوق كتفيه ونفخ التراب الذي علق بالزرار العلوي الأصفر اللامع.
تزايد ضغط المحتشدين، زاد عددهم حتى أصبحت المغارة وكأنها نقطة صخرية بين رؤوس البشر، المراسلون ينتشرون في كافة الأنحاء، يغطون الخبر للصحافة والإذاعة والتليفزيون. لا يجزم أحد بعدد الأطفال، فلم يعد طفل واحد ظهيرة هذا اليوم إلى منزله، والتكهنات كثيرة، لكن هذه المغارة أصغر حجما من أن تسع كل الأطفال ... ربما لأن أحجامهم صغيرة! .. ولكن من هو؟ ما دوافعه؟ ماذا يريد؟ ...
تنحنح كبيرهم قبل أن يعاود النداء من مكبر الصوت الذي بين يديه مهددا بالويل والانتقام، وناصحا بأن الجريمة لا تفيد، وواعدا بالعفو عند المقدرة ... همست امرأة لجارتها وهي تشير في اتجاه الكبير:
- عقيم، ليس عنده ولد، فقلبه حجر ....
أجابتها ساخرة:
- لديه في كل بيت من بيوت المدينة ولد ...
حدجتها الأولى باحتقار، فقهقهت الثانية وأخرجت صوتا منكرا، فقذفتها العيون بالشرر، وانتفضت العروق في أعناق بعض الرجال، ودمدموا:
- فاجرة!
قال كبيرهم، بلهجة واثقة لحشد من الصحافيين الذين تجمعوا بأوراقهم وأقلامهم مشيرا إلى الجثة:
- لابد أن القاتل من خارج المدينة، فأسلوب الذبح لدينا مختلف ..
ثم انحنى في كبرياء وأبعد أم الطفل ثم أشار بخنصره إلى الشق الدائري في لحم العنق مؤكدا، ثم ضيق عينيه ومسح على شاربه الكث قائلا باهتمام:
- هذا الطفل ليس من أطفال المدينة ...
ثم التفت إلى أمه المتهالكة على صدر زوجها وسألها، فأقسمت بعد أن عادت لتفحص الجثة، وكذلك أقسم زوجها، فقال الكبير:
- لكن وجهه أزرق اللون، وليس في مدينتنا ملونين ...
تمتم بعض الواقفين مؤمنين، وقالوا:
- فعلا، ليس في مدينتنا ملونين ...
هزت الأم راسها وعادت تحدق في الملامح، قالت لنفسها:
- يا ربي ... كيف وتلك الشفتين المزمومتين لم تفارقا صدري إلا قبل عامين ..؟؟
صرخت فجأة:
- يا ناس ... هذا رحمي مذبوحا فوق الأرض ..
انهارت على صدر زوجها الذي قال في استرحام:
- هو طفلي ... لا شك ...
عقد كبيرهم ساعديه على صدره، صوب نظرات فاحصة في الأب وسأله:
- هل تذكر في أجدادك ملونا؟
نفي الرجل بشدة وقطع، فأخذ كبيرهم شعرها بين أصابع كفه الضخم وسألها في خشونة:
- وأنت؟!
رفعت عينيها الدامعتين وأنكرت .. فهتف في ضيق وغيظ:
- لمن إذن هذا الطفل؟
تراجع الأب وجذب امرأته الملتاعة وقال بصوت مرتعش:
- ليس من أطفال المدينة ....
قال الأم وهي تمسح الجثة بعينيها:
- ولدي لم يكن أزرق ... لمن هذا الطفل إذن؟ ... هل تعرف أيها السيد؟ لابد أن هذا الطفل من خارج المدينة ...
فرك الكبير كفيه وارتخت ملامحه، سوي لوحة النجوم فوق كتفيه، استدار مرة أخرى زاعقا في مكبر الصوت بينما أصوات الأطفال الصارخة تأتي من داخل المغارة كأفراخ مذعورة ...
عاد الآباء ظهيرة ذلك اليوم كعادتهم بعد انتهاء العمل منهكين، وزوجاتهم سارعن بإعداد الطعام، لكن الأطفال لم يعودوا، وقبل أن يشتعل القلق كان الخبر يسري في كل شوارع المدينة، فهرولوا جميعا إلى الجبل، وها هي الشمس تنزلق إلى كيسها الأحمر كما اعتادت، ولازال الرسميون يقبضون على بنادقهم حول المغارة من كل اتجاه، لم تبق سوى دقائق ويقذف بالجثة الثانية ...
كل أم تتمتم بالدعاء، وكل أب يتمنى أن تصيب الكارثة أبا آخر حتى يتصرف الرسميون ويحلونها ...
قال رجل لآخر:
- كأن المصائب قد خلت من دورنا ...
فقال الآخر:
- لو فعلها مع النساء لكان أراحنا !!
سمعته امرأة عانس في عقدها الرابع، فلكزته بقوة هامسة:
- ليقل ذلك غيرك يا أخيب الرجال ...
فأجابها ساخرا:
- لا تنعتيني بما جربته مع رجال آخرين!
ابتعدت عنه زافرة وهي تسوي شعرها .. حينذاك لاح شبح على مدخل المغارة، فانقبضت الصدور وانكتمت الأنفاس وارتمى الرسميون بما فيهم كبيرهم متحفزين ...
في المرة الأولى قذف بالطفل دون أن يظهر له أثر، ولكن ... تركزت العيون: عيون المحتشدين وعيون البنادق ... علا صوت من الداخل:
- إذا أراد أحد من الآباء أن يفتدي طفله، ليدخل ويتبادل معه مكانه ...
ثم توارى الشبح مرة أخرى، فانكسر الصمت، ونهض الرسميون، وسرعان ما أمسكت النساء بتلابيب الرجال الذين اصفرت وجوههم وعلا صراخهم، انتشرت المشاجرات في أنحاء المكان كله، كان رجل يقول لزوجته بحدة:
- لماذا لا تدخلين أنت؟
فلطمت وجهها بحرقة قائلة:
- حسرتي على الرجال!
أشاح بوجهه وهو يقول مبرطما:
- تريدين أن تتخلصي مني ليخلو لك الجو!!
انقضت عليه تعضه وتركله، بينما إلى جوارهما زوجة تجري خلف زوجها وهو يصيح:
- لست أبيه ... اذهبي إلى أبيه الحقيقي!
وفي وقار وقف زوج يجادل زوجته بهدوء، كانت تقول له بصون مذبوح:
- أنت رجل ...
فلوى شفتيه متسائلا في إنكار:
- كيف عرفت ذلك؟؟
وحسما للأمور، قفز الكبير فوق صخرة عالية وصوب فوهة مكبر الصوت نحو الجماهير المحتشدة التي علا شجارها، طلب منهم الصمت، ثم قال في وضوح:
- عار عليكم أيها الرجال ... تلك لحظة الفداء .. لحظة الاختيار .. ثم إنه ليس لكم اختيار .. إذا لم تمثلوا بإرادتكم، أمرت رجالي كي تمثلوا مرغمين .. أنتم الحاضر ، وعيالكم المستقبل، ولا بأس في أن نضحي بالحاضر من أجل المستقبل ...
قاطعه شاب هائج:
- تريد أن تخلي المدينة من الرجال؟!
أحاط به الرسميون، كمموا فمه، وفي هدوء سحبوه إلى السيارة السوداء التي تذهب في العادة إلى مدافن المدينة، وبعد أن تحركت السيارة قال الكبير:
- مشاغب .. أثبتت التحقيقات أنه متواطئ مع الإرهابي ...
صاحت الحشود تلعن المشاغبين، وتمجد الأمن المستتب ورجال الأمن الصاحيين، بينما استطرد الكبير قائلا بحسم:
- لا شك أننا نجتاز محنة، ومدينتنا تعودت أن تهضم المحن، نفكر في خطة وننفذها معا، سأفسح صدري لكل رأي، ولنتخذ قرارنا عن طريق الحوار الحر ....
رسم الرسميون حلقة المؤتمر ثم رفعوا فوقها قبة، حالوا بينها وبين النساء اللاتي كن يصرخن في أزواجهن باكيات.
افتتح الكبير المؤتمر بسرد الوقائع وتقديم المستندات، اختتم كلمته بعبارات حماسية عن روعة الفداء ... كانت السيارة السوداء قد عادت من المدافن فارغة وشربتها عيون الرجال.
ثم تتالى المتحدثون، كلهم أثنى على رأي الكبير وأيده في حماس، ولكن معظمهم بعد أن قدم الثناء والتأييد أضاف بعض الآراء:
- من سيدير المصانع؟ ويفلح الحقول؟
- من ينكح النساء؟
- هل يدير الرسميون مدينة من العيال؟
لكن الكبير عقله كبير، فند الآراء في حكمة بالغة:
- نضحي بالحاضر، لكننا نضمن المستقبل ...
- لن تعدم النساء وسيلة ...
- العيال يكبرون ....
لكن أحد الرجال الأذكياء انبرى بحجة قوية:
- ماذا لو احتفظ السفاح بالرجال والأطفال؟
اكفهرت ملامح الكبير، قال بعد برهة:
- حينذاك ندمر المغارة بمن فيها ونقضي عليه...
فقال الرجل بصوت خافت:
- وعلينا ...!
فأشار الكبير برأسه إلى السيارة السوداء وقال ضاغطا الحروف بين أسنانه:
- ثمن قليل من أجل مدينتنا التي نحبها ...
اصطف الرجال مذعنين وحولهم تناثر الرسميون، بينما النساء أخرجن المناديل يلوحن لهم وهن يزغردن في سرور، وبدأوا جميعا ينشدون نشيد المدينة الوطني ...
قبل أن يتحرك صف الرجال الطويل، لاح الشبح مرة أخرى عند مدخل المغارة، شهقوا جميعا بينما ارتمى الرسميون متحفزين، مرة أخرى علا صوته من الداخل:
- أكتفي بكبيركم، وإليكم يخرج الأطفال!
توارى الشبح بينما كادت الجموع تهتف باسمه المجهول، تنفس الرجال الصعداء، بينما اهتز الكبير واعتدل وامتدت أصابعه تنظم لوحة النجوم فوق كتفيه، اشتدت قبضات الرسميين على بنادقهم، وعيونهم تدور بين المحتشدين في توجس وتحفز.
بعد برهة، ابتلع الكبير ما تبقى من لعابه، تأمل في العيون المحيطة المشتاقة، الشامتة، الظافرة .. ثم تنحنح وقرب فوهة مكبر الصوت من فمه وقال هادرا:
- يا أبناء المدينة الطيبين .. مدينتنا لا تعرف العنف .. أهلها مسالمون .. لتعودوا جميعا إلى بيوتكم، دعوا الأمر لنا فنحن عليه قادرون ...
همس بعضهم:
- أطفالنا ...!
فابتسم الكبير ابتسامة واسعة وقال في ثقة:
- ستجدون أطفالكم فوق الفراش نائمين ..
فقالت امرأة متعجبة:
- لكن ... الإرهابي؟!
فاستطرد الكبير نافضا يديه:
- هل رآه أحد؟ .. لا .. لم يره أحد .. أنصحكم بترك هذه الأوهام .. ليعد كل واحد منكم لكي ينام .. فالأمن مستتب والأمور على ما يرام ...
تلفت الناس حولهم، ثم استداروا في صمت وساروا كالقطيع في خطوات بطيئة يلفهم الكابوس، وخلفهم كان صف الرسميين متماسكا متجهما، حتى ابتلعتهم بيوتهم ....
انحنى الآباء يجذبون الأغطية على الأسرة الخالية فوق أطفالهم، بينما الأمهات تعد وجبة العشاء .....
............
( كتبت هذه القصة في خريف 1995)