" قصاصات أدبية " بقلم .. معصوم مرزوق


1- حمامة في زمن الصقور

ليست هناك - كالعادة - خطة محددة لما أريد أن أكتب .. كنت أتابع بعض لقطات إخبارية من حاضرة الدنيا وكعبة الطامحين إلي ملذاتها وسطوتها :" واشنجتن " ، طيب الله ثراها وبل أروقة بيتها الأبيض الطاهر المعمور .. 

تذكرت بعض الحوارات في أمسيات لا تنسي في تلك المدينة ، أدركت أن الزمان يوغل في التلاشي خلف جبال وتلال من الأحداث المتراكمة.

أجدير بنا أن نهرب من التاريخ الذي قال عنه " فوكو ياما " أنه انتهي ؟ ، أم أننا نتواري تقية خلف أستار واقعية ؟ ، أم أن الخلاص يتمثل في إنكار المشهود وتمثل الحلم ؟ .. أين الموقع في تلك التضاريس المختلة ، إن أنت تمسكت بعقلك هويت ، وإن تخليت عنه انتهيت؟ .. 

لا جرم أن كل إنسان هو وريث خطاياه وأفكاره ، ولكن المآساة أن يرث خطايا وأفكار الآخرين ، ويورثها لأجيال قادمة ، وكلما تم الإيغال في المسير ، إزدادت ورطة التيه ، وأطبقت فيافي الضياع بغير شفقة .

هل أصبحت الكتابة نوعاً من العقاقير المهدئة ؟ ، أما أنها بمثابة شهادات علي عصر يحرص الكتاب علي أن يخلفوها لأجيال آتية قد تقرأ ، وربما فهمت أو فسرت الأحاجي ، ربما التمست عذراً ، أو .. ربما أخذت منها بقبس ..

لم يصدق أبناء القبيلة صرخة " زرقاء اليمامة " ، فلقد كانت " مريضة " ببعد النظر ، فأتهمها قصار النظر بالخبل والجنون ، وقال " موسي " : إني آنست ناراً .. ولكنهم قالوا له : إذهب أنت وربك فقاتلا ، إنا ها هنا قاعدون .. ، ومع ذلك فقد تمسكوا بوعد هذا الرب :  " بل يكون " إسرائيل " إسمك ، ولك ولنسلك من بعدك أهب هذه الأرض من نهر النيل إلي الفرات " .. ، وقال " كارتر " للرئيس السادات : أعتمد عليك إعتماداً كاملاً في التوصل إلي إتفاق .. وأصدقه الرئيس الوعد ، ولكن كارتر - في مذكراته - حرص أن يوضح أنه كان يتفاوض مع الرئيس السادات في طرف ، وشعب إسرائيل في الطرف الآخر ..

في أي كتاب من كتب أنبياء بني إسرائيل سوف يدرج إسم هنري كيسنجر ؟؟ .. لا شك أن مناحم بيجين سوف يحتل مكانة بارزة ، وكذلك بعض أولياء السياسة الصالحين الطيبين في الجانب العربي .. طوبي لمن ساهم في حل عقدة الماسادا ، وألف طوبي لمن غسل جرائم النازية تجاه أبناء العمومة خاصة ، ومليون طوبة إلي رأس كل من ساهم في صنع سياسة الحمام ( أن تصر علي أنك حمامة في زمن الصقور ) ..

2 - المخاض 

هل آن زمن دفن الشهداء ؟ .. أم أن هذا هو الزمن الذي ينبغي أن يبعثوا فيه من جديد ؟ ..

سطور كراساتي القديمة ، دموع في زمن " بحر البقر " و " مصنع أبو زعبل " ، ولا تزال تشب بينها نيران " الزيتية " ، وصرخة فتي : " يا مصر يا بلدي .. أيام وبتعدي " ، حين وقف بين زملائه يقرأ لهم قصيدته الجديدة : " لما الكلمة تعوز تأييد .. أصنع ليها نار وحديد"  .. ، 

هذا الفتي - أبوك يا ميسرة - كان مثلك طفلاً ، يمزق صفحات الماضي ليكتب حاضراً أفضل ومستقبل أزهي .. وهاهي صفحاته صفراء ذابلة حائلة ، والطريق أوشك علي منتهاه .. 

هل تصلح تلك الكراسات القديمة كوصية أم أنها لعنة يجب أن يتم تمزيقها وحرقها ودفنها ؟ ، أنها – علي الأقل – تاريخ شعور وأفكار إنسان ، كيف يحتمل الإنسان فكرة أن تاريخه عورة يجب أن تتواري ؟! أو عاراً يستوجب إنتقاماً ؟! .. 

عيونها – ميسرة / زرقاء اليمامة- ترفض الوصايا ، وتحرص في نفس الوقت علي مطالعة كراسات أبيها القديمة ، ستتعذب مع كل سطر ، حين تمر علي أطلال الأحلام المحطمة ، وتتأمل إلي نسيج العنكبوت الذي يخنق الأشعار والأغنيات . 

سوف تقف مع أبيها في المحطات المختلفة ، تراه صبياً يخطط في كراسته المدرسية معركة الخلاص ، سوف تعيش معه لحظات عشقه وفرحة اللقاء ، سوف تبكي أحزانه ، وتعاني معه زمن الإنكسار وزمن الإنتظار الطويل في الخنادق ، ولسوف تقفز فرحاً معه في لحظة التفوق وهي تغتسل معه في مياه القناة ، ستشاركه رقصة الإنتصار ، في تلك اللحظة ستري في عينيه لأول مرة فرحة حقيقية ، ستري آماله كلها وقد تحفزت تأهباً للإنطلاق علي أرض الواقع …

من المؤكد أنها ترفض فكرة إعدام هذا الماضي ، ولكنها – أيضاً – ترفض أن تعيش أسيرة له ، ستكون أقل رومانسية من أبيها ، ولا شك أن قراءة أبيها ستساعدها في ذلك كثيراً ، ولسوف يسلحها بأدوات العصر الذي ينتظرها ، الإيمان وحده ليس كافياً لمن أراد أن يمشي في الغاب ، فلابد من العلم وتطبيقه ، وليس هناك مجال للتسامح أو العواطف ..

تعليقات

  1. هذا هو الزمن الذي ينبغي أن يبعثوا فيه من جديد. أنها شهادات علي عصر يحرص الكتاب علي أن يخلفوها لأجيال آتية قد تقرأ ، وربما فهمت أو فسرت الأحاجي ، ربما أخذت منها بقبس ..

    ردحذف

إرسال تعليق

أترك تعليق