بعد أن انتهى الإمام من صلاة الجمعة فى المسجد الوحيد بالمدينة انتصب واقفا بقوامه الفارع الممشوق، وبجواره شاب فى العقد الثاني من عمره مربتا على كتفيه، وأقرأه الشهادتين بلغة عربية اجتهد كي تكون واضحة، وردد الشاب خلفه، وما أن انتهى حتى هلل الإمام وكبر وحمد الله وأخبر المصلين بأن هذا أخ جديد لهم في الإسلام. خرجت من المسجد، وهدفي الوحيد هو البحث عن طعام في هذه المدينة القاحلة ؛ بور - وهي اسم على مسمى- فقد نفذ رصيدي من مؤن المعلبات التي أتيت بها من مصر، ولست أدري ماذا يأكلون وكيف يأكلون هنا فى تلك المنطقة النائية فى عمق القارة السوداء، فقط لا أسمع اللغة العربية سوى فى المسجد والمركز الطبي المصري هنا في المدينة - مجازا يطلق عليها مسمى مدينة - حتى المرضى أستعين بالممرضة السودانية لتترجم لي لغتهم القبلية المحلية بلكنتها العربية الضائعة. رغم الشتاء وحفر الطريق الموحلة المليئة بمياه الأمطار إلا أن الشمس معلقة في كبد السماء حارقة تسير فوقي وتصحبنى أينما ذهبت، فى الطريق إلى السوق القريب من المسجد والمركز الطبي لا أحد يتجاوب مع لغتي العربية أو الإنجليزية فاللغة قبلية إلى حد كبير، لا لافتات تشير إلى نشاط المحلات البسيطة المصممة من ألواح الصاج والأسقف المائلة لإزاحة الأمطار بعيدا عنها، فجأة أتاني صوته من الخلف بلغة عربية مرهقة قائلا: أهلا دكتور، التفت خلفي لأرد التحية لأجده بشوشا مبتسما عن أسنان ناصعة البياص فى منتصف وجهه الذي قست عليه الشمس ولوحته لتكسبه لونا منسجما مع لون الأرض السوداء شديدة الخصوبة ، قلت له : كيف عرفت أنني طبيب رغم أني لا زلت حديث عهد بالمكان، ورغم أنك رأيتني من ظهري؟!، اتسعت ابتسامته أكثر وأردف قائلا: ومصري أيضا!، قلت: حسنا، مااسمك: قال: حمزة وكنت أصلي خلفك بالمسجد، قلت : عظيم، دلني إذن على مطعم قريب من هنا، قال : سر معي ، سرت بجواره أفحص -بجانب عيني اليمني دون أن ألتفت برأسي- قميصه الأبيض وبنطاله الأسود النظيفين المكويين بعناية فائقة فيما كان هو لازال يجتهد بلغته العربية مرحبا بي ، سألته عن أنواع المأكولات فى المطاعم هنا فذكر أنواعا لم أفهم منها سوى الفول والسمك النيلي، وكان من بين ماذكره نوعا أسماه : جداد، لم تفلح محاولاتي الاستفسار منه عما يعنيه ب" جداد"، قال : حينما تجربه ستعرفه !، قلت : حسنا أجربه! .. توقف أمام المطعم الذي لايبدو من الخارج أنه مطعم ، شكرته مودعا ..ابتسم وهو يدخل المطعم معي ويجلس خلف مكتب الإدارة، قال ولازالت ابتسامته الصافية تكسو معالم وجهه : أعمل هنا ، قلت : حسنا ، آتنى بالجداد إذن ! قال: تمام!....كانت أحشائي التي جفت من المعلبات تتأهب وتتهيب تناول مالاتعرفه، وحين وضع حمزه أمامي نصف دجاجة مشوية مشيرا إلى أنها (الجداد) هدأ توترها وشعرت بالألفة!
( من يوميات طبيب مصري في جوبا )