لم أقتنع يوما بأن الكتابة قادرة على التغيير، ولا يمكن أبدا استخدامها كأداة ولو حتى لتنظيف الأنف. لا القراءة ولا الكتابة قادرتان على تغيير مكان قطعة خراء لعدة سنتيمترات من مكانها..
لا أدري حتى اليوم لماذا أكتب. هناك بعض الأسباب المهمة بالنسبة لي، وعلى رأسها الكسب المادي المباشر والسريع. ولولا الاحتياج المادي، لما ارتبطت بهذا الشكل المَرَضي بالكتابة، سواء الإبداعية أو الصحفية.
أنا غير مقتنع إطلاقا بأن الكتابة والقراءة قادرتان على تغيير أي شيء أو إقناع أي أحد بأي شيء. ولا يهمني أصلا رفع وعي أي أحد أو تغيير أي شيء عن طريق الكتابة والقراءة. التغيير له أدوات أخرى مباشرة، بدلا من الاستمناء وممارسة العادات السرية الثقافية المثيرة للسخرية.
تصيبني حالة من الاستخفاف والسخرية عندما اقرأ لكتاب يقولون إنهم يكتبون من أجل الحرية، ومن أجل رفع وعي "الشعب"، ومن أجل مقاومة الظلم وفضح الطغاة. أرى أن كل ذلك مضحك للغاية ومثير للسخرية. ويثير سخريتي أكثر، عندما يقولون إن الكتابة بالنسبة لهم كالماء والهواء.
أرى أن الموسيقيين والفنانين التشكيليين والشعراء وصانعي الملابس الداخلية النسائية والعطور وأحذية الفقراء هم بشر استثنائيون لديهم مواهب ما فوق بشرية.
لدى علاقة خاصة للغاية بعلماء الفيزياء والرياضيات والهاكرز والملابس الشعبية التي ترتديها النساء، والحلقان والأساور التي تشخلل عندما تتعمد الفتيات لفت انتباه الصبيان الحمير...
لا أحب الأطباء ولا المحاسبين ولا المحامين ولا أولئك الذين يقدمون الطعام في المطاعم ولا موظفي البنوك وشركات الهواتف المحمولة ومحصلي الباصات والشيوخ والقساوسة.
لدى مشاعر خاصة جدا لا أستطيع الإعلان عنها إزاء رؤساء العمل والمخبرين وضباط الشرطة والمسؤولين الحكوميين والوزراء ورؤساء الدول والملوك والقوادين والأنذال، وزملاء العمل الأنطاع الذين يشون بي وببعضهم البعض.
عندي مشاعر طيبة تجاه الحشاشين ومحصلي الغاز والمياه والكهرباء، والمرتشين خفيفي الظل والقهوجية وماسحي الأحذية.
عادة ما تواتيني رغبة في التبول على جهاز التلفزيون كجهاز وكاختراع، وتشتد الرغبة عندما يبثون خطب الرؤساء وتصريحاتهم . وتصبح هذه الرغبة ملحة للغاية عندما أشاهد مقدمي برامج التوك شو العربية، والمذيعات الجاهلات، والمذيعين الحمقى، الذين يرتدون جميعا ثيابا غريبة ومضحكة، ويغطون وجوههم بمساحيق تشبه الخراء.
لا أحب الفقراء ولا الأغنياء، ولا أتعاطف مع الأقليات والمتسولين والمتدينين وأولئك الذين يطنطنون كثيرا باسم الوطن، ورجال الأعمال ثقيلي الظل الذين يتباهون بجهلهم وبأموالهم وبعصاميتهم المزعومة وبساطتهم العبيطة وبالمعلومات التي يتصورون أنها تهم أي حمار يشبههم.
أحب أطفال الشوارع وعمال التراحيل والنساء اللاتي يبعن الجرائد في باب اللوق، والأخريات اللاتي يبعن الخضروات في حي الزمالك، وأولئك الذين يقدمون الخمور في البارات، والفتيات اللاتي يغنين في غرف نومهن أو في الطريق أو بصحبة ما يروق لهن من الأولاد.
أبكي سرا وإجلالا ورهبة عند الأهرامات تحت قدمي أبي الهول، وتنساب مشاعري على أعتاب فاطمة النبوية، وأتحول إلى طفل في حضرة العذراء. أتمنى لو حفر الناس نفقا يصل بين كنيسة الزيتون وجامع ستنا فاطمة النبوية.
أعشق شادية وهند رستم وداليدا ومونيكا بيلوتشي وإيديت بياف ومارينا تسفتايفا ونجاة الصغيرة وعفاف راضي وفريدة فهمي ونجوى فؤاد وزينات صدقي.
تطربني أم كلثوم ومحمد رشدي والنقشبندي وبدرية السيد وعباس البليدي. وأستمتع بأصوات البابا شنودة وأحمد عدوية. ويدهشني شاكوش وليلى نظمي والشيخ عبد الباسط عبد الصمد.
في هذه الأرض بعضا من إبراهيم فهمي وصبري موسى ومحمد مبروك ونجيب شهاب الدين وسمير عبد اللطيف ومحمد جبريل وإبراهيم عبد الفتاح وفريدة النقاش ومصطفى إبراهيم وانتصار عبد الفتاح ونبيل عبد الفتاح... وملحها نجيب سرور ويحيى الطاهر عبد الله وأمل دنقل، وسكرها أنا ويوسف وأنس وسميح ومنتصر. وأطفالها الباقون أحمس ومينا وآخر طفل مصري ولد منذ قليل...
يذهلني عادل خيري وعادل إمام وجورج سيدهم والضيف أحمد وسعيد صالح.
يلهمني محمود مختار وموديلياني ويوسف شاهين وبليغ حمدي ومحسن أبو العزم وتاركوفسكي وبيرجمان ونجيب محفوظ. أما سيد درويش وداوود حسني، فكل منهما يسكن نصف قلب ويحتل رئة من الرئتين.
تضحكني النساء الذكيات خفيفات الظل وأفكر بالارتباط بهن جميعا من باب الطفاسة.
أرتبك عندما أتذكر أبي وجدي والكلاب والقطط وأبو قردان وأبو قير وصوت الليل تحت الجميزة والترعة والبحر المالح والقنال، وحبيبتي سانت كاترين التي حملت الملائكة جسدها الطاهر من أمام بيتنا في الإسكندرية إلى قمة الجبل في جنوب سيناء...
أبكي عندما أتذكر أصحابي الذين ماتوا.