مطب بي بي سي و تعويض الضيوف
تقليد المكافأة التشريفية honorarium او التعويض المالي للضيف او الخبير عن وقته وخبرته او تحليله السياسي الذي يقدمه لإذاعة أو قناة تليفزيونية حين تستضيفه، لم يكن تقليدا منتشرا في إعلامنا العربي، ربما باستثناء مكافأة المطربين والموسيقيين والقرّاء والمؤدين.
لكن القنوات الإخبارية الخليجية بتمويلها السخي، نقلت التقليد من القنوات الغربية الحريصة على دفع مقابل الأداء العلني للخبراء من ضيوفها أو نجوم الشباك في القنوات التجارية، وحولته الى واقع مضطرب في عالمنا العربي، بشكل لايميز بين ضيف صاحب قضية كسياسي او ناشط او منتفع من ظهوره سواء لنشر أفكاره او ترويج عيادته او متجره ، وهو من يجب ألا ندفع له ولا ان يدفع لنا، وبين الخبير او المعلق السياسي او الاقتصادي او الرياضي المطلوب منه ان يدرس ويستعد لبحث وشرح وتحليل الخبر او الموضوع الذي تريد القناة التعليق عليه، أي المحترف وهو من يتم غاليا استدعاؤه بسرعة لبرامج الهواء الاخبارية، ويعتمد الخبير والمحلل على التعويض كمصدر رزق وليس كرفاهية!
القنوات الأمريكية مثل CNN حلت هذا الاشتباك، بتحديد عدد قليل جدا من الخبراء والمعلقين الذين لايخرجون إلا عندها حصريا، وتكتب على الشاشة انه خبيرنا في الكونجرس او الشأن العربي او الدولي او الطبي… وتدفع لهم مكافأة شهرية تتحدد بقدر مكانتهم ومتوسط مرات الاستعانة بهم للتعليق. أما باقي الضيوف، خصوصا من السياسيين او غيرهم فلا يحصلون على شئ سوى الاستفادة من الظهور والترويج لاسمه او الدفاع عن قضيته على هذه القناة المؤثرة.
القنوات الإخبارية الغربية الثلاثة التي تبث باللغة العربية، والتي أعرف نظام مكافآتها للضيف بحكم ظهوري عليها ولو مرة في الشهر او أقل لأنها مازالت تسمح لي بالحديث بحرية حتى لو انتقدت حكومتها خلافا للقنوات العربية التي تريدني انتقد الآخرين وليس حكومتهم، فنظامها كالآتي:
1- قناة فرانس 24 عربية، من باريس، وهي لاتدفع لأحد من ضيوفها أو محلليها أي تعويض مالي، وتبلغك قبل ان تقرر الظهور انها لاتدفع. بالتالي، اعتذرت لهم عن التعليقات الاخبارية ولم امانع مرة في الشهر مثلا ان اكون ضيفا كصحفي في ندوة مع صحفيين لإبداء الرأي.
2- قناة صوت ألمانيا DW بالعربي، من برلين، وهي تدفع مكافأة لكل ضيوفها الخبراء والمحللين، لأن لديهاساعة واحدة اخبارية في اليوم، ولذا تدفع بقيمة معقولة وبأسرع وقت لايزيد عن شهر.
3- قناة BBC عربي، من لندن، وهي تدفع مكافآت لبعض وليس كل ضيوفها ومحلليها، بمبلغ متواضع رمزي للغاية، ولكن بأبطأ وقت للدفع قد يتجاوز اكثر من عام في الفترة الأخيرة!
فقد فوجئنا اليوم ومعنا المسكينة مذيعة فترة إخبارية على شاشة بي بي سي، وهي تناقش تصريحات الرئيس الامريكي عن التهديد الروسي بغزو أوكرانيا، وتسأل ضيفها المعتاد ظهوره بالقناة من نيويورك عن تعليقه، فأجاب بعد جملة واحدة عن السؤال والحدث السياسي:
".. والآن الموضوع الرئيسي الذي اريد هنا التحدث عنه ان قناة بي بي سي لم تدفع لنا مستحقاتنا المالية منذ أكثر من عامين.."
ووضع الضيف على الكاميرا، والشاشة التي كانت نصفها يعرض المناورات العسكرية، ورقة مكتوب عليها اسما الموظفين في الشئون الإدارية والمالية بالقناة اللذن قال إنهما لم يدفعا له مستحقاته منذ اكثر من عامين! وواصل حديثه مرددا اسميهما ومطالبته لهما وللقناة بدفع مستحقاته..
وحين تمالكت المذيعة اعصابها وحاولت إسكاته قائلة: "هل تعتقد ان هذا مجال مناقشة موضوعك".. واستدركت قائلة له "نُقدّر ما تقول ولكن.." وواصل الضيف شكواه حتى تم قطع الصوت عنه مع بقاء شاشة المناورات الروسية، وانهت المذيعة الفقرة والموقف المحرج منتقلة الى فاصل وموضوع آخر!
الموقف سيظل في تاريخ مواقف إذاعية، لاتملك معه سوى الضحك مع البكاء، والتعاطف مع شخص محنك يمكن تصور هول الظروف التي دفعته للانفجار، والتعاطف بالمثل مع المذيعة التي واجهت على الهواء مشكلة، قد لاتكون بأهمية روسيا وأوكرانيا لكنها لصاحبها اهم، كما تمس قناتها وزملاءها والأهم مديريها.
فهل من حل يتجاوز للأسف مشكلة زميلنا الى كيفية تعامل الإعلام العربي مؤسسيا بمكافآت او إكراميات الضيوف!