السفير معصوم مرزوق يكتب : مقالي الممنوع .. " زهرة علي قبر " شيماء "

 

في زمان ليس بعيد كان المعتاد هو أن يدفن الأبناء آباءهم ، وفي هذا الزمن صار الآباء يدفنون أبناءهم .. ذلك الزمن العجيب !!.

أعرف أن هذا المقال – إذا نشر – سوف يواجه باتهامات ليس أقلها أنه مؤيد للإرهاب ، ذلك الإتهام السخيف الذي أصبح مضغة فاسدة في أفواه إعلام منافق كاذب ، ولكنني أجد أنه من واجبي ، وواجب غيري ، أن ننبه ونضع إشارات التحذير عندما ينحرف الطريق صوب الهاوية ، لأننا إذا لم نفعل فأننا بالفعل نخون وطننا وشعبنا ونرتكب جرماً أبشع من جريمة الإرهاب ، ومن المحزن أن نضطر دائماً إلي الإلتجاء لموقف الدفاع كي نفسر آراءنا ، بعد ثورة كانت "الحرية" هي أبرز شعاراتها ..

كانت " شيماء " تحمل الزهور متأهبة لزيارة موطن عشقها وعشق جيلها ، أنه نفس الميدان الذي حمل غناءها وصراخها ، أحلامها وآلامها ، وشهد فرحة التحقق حين انتصر الشعب لأول مرة علي خوفه ، وتراجع القهر مقهوراً ، وارتفعت رايات المستقبل الملونة ، و" شيماء " تضحك وتغني وتهتف : " عيش ، حرية ، عدالة إجتماعية ، كرامة إنسانية " ..

لم يتجاوز عددهم أربعين ، أو خمسين ، وربما ستين .. " فتية آمنوا بوطنهم " ، تقدموا صوب الميدان وقد اتفقوا علي عدم الهتاف بأي تعبيرات تختلف عن هتاف الثورة الأشهر ، بل واختاروا يوم 24 يناير أي اليوم السابق لعيد ميلاد الثورة ، حتي يتفادوا اتهامهم بتشجيع الأرهاب ، اتفقوا أيضاً علي الإلتزام بالرجوع مباشرة إذا طلب منهم الأمن ذلك ..

وفي ميدان طلعت حرب فوجئوا بأعداد من مدرعات الشرطة وعرباتها ، وقوات كثيفة تحاصر الميدان ، فأرسلوا أمين عام الحزب كي يطلب من قائد الشرطة الموجود الإذن حتي لخمسة أفراد أو أقل بالتوجه بباقة الزهور كي يضعوها في قلب ميدان التحرير وفاءاً لذكري شهداء الثورة التي يقسم الجميع بشرفها ، وعندما أصبحوا علي مقربة أمتار من ذلك الضابط رفيع المستوي ، حتي فوجئوا بالقائد الهمام يطلق صرخة الحرب ويندفع مثل صلاح الدين الأيوبي رافعاً ذراعه ، ومن خلفه انطلقت جحافل الجنود بزيهم الأسود الكئيب ، وانطلقت مئات الطلقات من الغاز والخرطوش ، فاستدار الشباب وهم يحاولون الهروب ، بينما سارعت القبضات القوية تلقي القبض عليهم ، وبين ستار كثيف من الدخان سقطت شيماء مضرجة في دمائها ..

لقد رأينا جميعاً لقطات مصورة لهذه الموقعة التي يندي لها جبين الوطن ، ولعل كل ذي حس وإباء قد شعر بالعار وهو يتأمل إلي صورة شيماء وقد حملها أحدهم يهرول بها بعيداً عن أرض ميدان "المعركة" ، ومن خلفه القائد الهمام يقفز برشاقة وقسوة كي يلقي القبض علي أحد الشباب ، ووفقاً لروايات الحضور تم القبض علي كل من حاول أن يقدم يد العون إلي شيماء ، والجميع يصرخ طلباً للإسعاف ولا مجيب ..

وأياً ما كانت نتيجة التحقيق ، فأن الحكومة مسؤولة ، فسواء كانت الطلقة القاتلة قد انطلقت من بندقية شرطي ، أو كانت من " مندس" وفقاً لما سارعت الداخلية كالعادة بالإعلان عنه ، فأنها مسؤولية الحكومة للحفاظ علي أرواح مواطنيها ، لأنها إذا كانت عاجزة عن توفير الحد الأدني من حقوق هؤلاء المواطنين في العيش الكريم ، فلا يمكن أن تتهرب من مسؤليتها عن حماية الحق في الحياة ..

لقد قتلت شيماء حين أصبحت الحرب ضد الإرهاب قناعاً تتخفي خلفه الحكومة كي تقضي علي الحريات ، وقتلت شيماء حين أصبح الإعلام أبواقاً تدق طبول الحرب وتهتف بضرورة  " الضرب في المليان " ، وتلوث وعي الناس كي يقبل بمصادرة حرياته في معادلة أمن غير متحقق ، وقتلت شيماء حين انصرفت النخب السياسية عن مواجهة هذه الحقيقة ، وانكبت علي مائدة الفتات كي تتصارع فيما بينها للحصول علي مقعد أو مقعدين في برلمان يتأكد كل يوم أنه سيكون برلمان المال السياسي ورموز دولة الفساد والمحاسيب ، ورغم أن كل تلك النخب تعترف بأن قانون الإنتخابات سوف يؤدي إلي هذه النتيجة .. قتلت شيماء حين أصرت الحكومة علي قانون للتظاهر أجمع الجميع علي رفضه بما في ذلك المجلس القومي لحقوق الإنسان الذي عينته الحكومة نفسها ( !! ) ، قتلت شيماء يوم أن فتحت بوابات التخوين ضد ثورة 25 يناير ، تلك الثورة التي لولاها لما أصبح هؤلاء الجالسين فوق مقاعد السلطة الآن في أماكنهم .. قتلتموها جميعاً ، قاتلكم الله ..

لقد خدعوك يا شيماء حين قالوا " أن يداً لن تمتد عليك " ، وحين ادعوا أنهم يحترمون ثورة 25 يناير ، وخدعناك جميعاً حين توهمنا أننا نعيش في مجتمع جديد تتولي فيه قوات الأمن حمايتنا ، وخدعناك أيضاً حين عجزنا عن أن نحمل زهرة إلي قبرك ، بعد أن رفضت الجهات المسؤولة إقامة مناسبة للعزاء في مسجد عمر مكرم ، بل وترددت نقابة الصحفيين في الموافقة علي ذلك ..

ومن المثير للإشمئزاز ، أن كل الميادين في نفس الوقت فتحت لمجموعات من " المواطنين الشرفاء " كي يرقصوا ويغنوا تحت نظر وسمع الشرطة ، وكأن قانون التظاهر يستثني المظاهرات الراقصة علي أنغام " تسلم الأيادي " فقط !! ..

ربما يكون استشهادك يا شيماء لحظة إفاقة لكل من أسهم في قتلك ، قبل فوات الأوان ، ربما أرسل دمك رسالته إلي من يعنيه الأمر كي يدرك أن هذا الشعب لن يسلم أبداً حريته التي دفع فيها دماء أبنائه جيكا ومينا ومحمد الجندي وغيرهم ، ربما يكون استشهادك جرس إنذار بضرورة البدء فوراً بإجراءات العدالة الإنتقالية لتحقيق القصاص لشهداء الثورة المصرية ، فحتي الآن لم تتم إدانة قاتل واحد ، ولا يزال الجاني مجهولاً ..

وأقول في الختام لكل من لا يعرف " شيماء " ، أنها فتاة مصرية ناضلت من أجل حقوق الضعفاء والفقراء ، وبدأت هذا النضال منذ شبابها المبكر قبل ثورة 25 يناير ، وظلت وفية لعهد الثورة حتي آخر لحظة من لحظات حياتها ، ولا شك أن طفلها الصغير " بلال " سيظل فخوراً بها ، بل أنها ستظل قلادة علي صدر هذا الوطن تتباهي بها الأجيال تلو الأجيال ، أسأل الله لك الرحمة والمغفرة وجزاء الشهداء ، وأسأله اللعنة علي كل قاتليك ..

تعليقات