حركة.. حركة واحدة فقط ويتهدد الملك.. لكنه ذكى أريب مراوغ.. يدفع بالجنود فى طريق الطابية والحصان كى يسد المسالك، ويضحى بجنديين كى يعرقل الفيل، وفى مواجهته تبدو كل الحركات متسرعة متهورة غير مدروسة، مجرد اندفاع أعمى بلا تخطيط أو فهم لقواعد اللعبة، تبدو القطعان وكأن كلهم ضباط بلا جنود، وكأن كل ما يشغلهم هو البروز على قطعة الشطرنج، وأن تسلط الأضواء عليهم بغض النظر عن النتيجة النهائية.
ورغم أن الملك على الحافة، محاصر من جميع الاتجاهات، إلا أنه ينجح فى كل مرة فى الإفلات من الزاوية والالتفاف ببعض التضحيات البسيطة التافهة التى يهلل لها الطرف الآخر باعتبارها إنجازات وانتصارات..
يدعى الملك أنه يراعى قواعد اللعبة، ولا يفطن أحد أنه الذى وضع هذه القواعد، ويمارس مرونة تغييرها لإرباك الطرف الآخر، والاستمرار فى اللعبة أطول وقت ممكن، لأنه يدرك أن عامل الوقت لصالحه.
نجح الملك فى استدراج الطرف الآخر إلى ملعبه، فى المناخ الذى يجيد فيه ويتفوق، وهو الهجوم غير المباشر بالتطويق والالتفاف والحصار حتى الإنهاك، والطرف الآخر يلهث فى الرقعة المخططة يبتلع الطعم تلو الطعم بإغراء تلو إغراء، يتهاوى تنسيق خطوطه ويتناقض..
ويبدو أن الملك فى لحظة مواتية سوف يضع الشروط والقواعد النهائية التى لن تزيد على شروط استسلام للطرف الآخر، وحينها سوف يصفق له الجمهور ويهللون لنجاحه ليس لقبولهم بالنتيجة، وإنما ليأسهم وقرفهم من الطرف الآخر الذى يبدو منشغلا بتفصيل أزياء الاحتفال بنصر لن يجئ, ترك الطرف الآخر الرقعة الرئيسية كى يتنافس على رقع أخرى، يتشاجر وينفعل ويسخن ويبرد فى حركات غير ضرورية أو حاسمة، بينما الملك العجوز يتأمل إليهم ببسمته الساخرة الأبوية، يشجعهم على الانصراف لتناول الطعام وتبادل الأنخاب حول الموائد العامرة، يترك لهم أضواء الكاميرات ومانشيتات الصحف التى تحمل صرخاتهم النارية وتهديداتهم، بينما يواصل هو ترتيب الرقعة وتنظيم صفوفه تأهبا للخطوة التالية، يتراجع بحساب، ويتقدم خلسة كى يأكلهم قطعة قطعة.
بعض اللاعبين يعانون من براءة لا تتناسب مع اللعبة القاسية، والبعض الآخر تمرس على القبول بالفتات التى ينثرها الملك، والبعض الآخر أدمن أحلام اليقظة، بحيث تبدو اللعبة وكأنها تلعب من طرف واحد..
الجمهور المتحاوط حول الرقعة أصبح عاجزا عن المتابعة، ونجح السماسرة ومحترفو الرهانات فى أن يشغلوه بالأوهام والتمنيات، وأدى التزاحم إلى التشابك والانفعال، وغابت الرقعة الرئيسية، حتى أصبح الجمهور دون أن يدرى مجرد قطع للشطرنج تحركها أصابع ماهرة، تضحى ببعضها أحيانا، وتدفع ببعضها الآخر كى يأكل بعضا ثالث، والملك يخفى يديه بمهارة، وحده يلاعب عشرات الطامعين، وكالحواة يخرج الأرانب من قبعاتهم ويذهلهم بحركاته المموهة بعناية.
أصبح أغلب الجمهور متعاطفا مع الملك العجوز، أو على الأرجح ازدادت ثقتهم فى أنه وحده القادر على إدارة اللعبة بأقل قدر من الخسائر، لذلك بدأ ينفض عن تشجيع اللاعبين المتزاحمين على الطرف الآخر دون أن يجرؤ أحدهم على الانقضاض الحاسم والوصول إلى موقف «كش ملك», بعض اللاعبين اكتفوا بألسنتهم التى سال لعابها على خانة أو خانتين تركها الملك لهم متعمدا كى يأكلهم بحصانه المتربص فى الجوار، والبعض الآخر اكتفى بارتداء الدروع دون أن يحمل سيفا، والبعض الآخر استمرأ استمرار اللعبة بغض النظر عن نتيجتها، فهو سعيد ببقعة الضوء والشهرة, يتأهب الملك لسلسلة من الحركات المتعاقبة كى يسيطر على الرقعة كلها، ثم يأكلهم قطعة قطعة ويرغمهم على الاستسلام لقواعد اللعبة وفقا لشروطه، وهم يتقهقرون منسحبين وهم يرددون من حلاوة الروح: «كش ملك» «كش ملك».. والملك يضحك ملء شدقيه.