الحرية أولا.. ثم تكون الأحزاب
الدستور يحكم الديمقراطية.. إذا أخذ مكانته المقدسة عند الحاكم والمحكوم!!
الوطنية ليست كلمة مجردة.. لكنها عقيدة المجتمعات الحية.
العدالة لا تقبل القسمة على اثنين.. والقانون لا يجوز تلوينه بأهواء ومصالح الذين يصنعوه.
تلك كانت قناعات "محمد فريد" الذى تربى وسط أسرة مرموقة, تتمتع بنفوذ وثراء واضحين للعيان.. فأبوه كان يشغل وظيفة "قاضى البحار" لأعمال قناة السويس.. علم ابنه فى مدارس "الفرير" ثم التحق بمدرسة اللغات التى أصبحت "الحقوق الخديوية" وكان يهوى الكتابة.. راح يكتب مقالات وينشرها فى الصحف, لكنه لا يوقع باسمه.. إختار التوقيع بالأحرف الأولى "م.ف" حتى لا يغضب والده الذى لا يرى فى الصحافة مهنة محترمة!! لفت نظره ما يكتبه وينادى به "مصطفى كامل" فحدث التعارف بينهما.. وضح أن قناعات كل منهما تكاد تتطابق, وإن كانا يختلفان فى الأسلوب.. إستقال "محمد فريد" من عمله كوكيل نيابة, واتجه للعمل بالمحاماة.. وفى مذكراته التى كتبها "أحمد لطفى السيد" بعنوان "قصة حياتى" ذكر أن أبو "محمد فريد" إشتكى إبنه للأستاذ "محمد عبده" وكان يبكى: "يرضيك محمد يهزأنى على آخر الزمن, ويفتح دكان أفوكاتو – مكتب محاماة –" وحاول "محمد عبده" تهدئته وراح يشرح له أن المحاماة ليست مهنة مخلة بالشرف!! وباعتباره ابن أسرة ثرية فقد تزوج مبكرا – عام 1888 – قبل أن يبلغ العشرين من عمره.. أنجب أربعة أبناء منهم فتاتين, وأخذ ابنه "عبد الخالق" طريق القضاء وشغل موقع رئيس محكمة "أسيوط".
إلتقى "محمد فريد" مع "مصطفى كامل" على أرضية ضرورة جلاء الانجليز عن مصر.. وكان "محمد فريد" تشغله مسألة سلخ السودان عن مصر, التى نفذها "جوردون باشا" على مرحلتين.. كانت الأولى حين عينه "الخديوى إسماعيل" حاكما للسودان, فركز على تعيين أكبر عدد من الموظفين الأجانب.. إستمر حاكما بين عامى 1877 و1979, ولإخماد الثورات التى اشتعلت ضد أسلوبه فى الحكم.. تم إبعاده لتهدئة الأوضاع.. وبعد احتلال مصر ضغطت بريطانيا على "الخديوى توفيق" لإخلاء السودان باعتبار أن الحكومة المصرية تنفق هناك 10 جنيها سنويا.. كان "شريف باشا" رئيسا للوزراء – مجلس النظار – وتمسك برفض طلب سلطات الاحتلال, وله قولة مشهورة: "إذا تركنا السودان.. فالسودان لا يتركنا.. نحن أمة واحدة" فأدى ذلك إلى عزله.. تولى "نوبار باشا" رئاسة الوزارة.. أذعن لطلبات الانجليز, وأعاد تعيين "جوردون باشا" حاكما للسودان.. كانت الأوضاع قد اختلفت وأصبح مطلوبا تنفيذ استراتيجية الاحتلال فيما يتعلق بالعلاقة بين مصر والسودان.. إستخدم "جوردون" القوة الغاشمة فى مواجهة أبناء السودان, فقتلوه يوم 26 يناير عام 1885.. تكشفت ملامح رؤية المستعمر للسودان, بإعلان "جلادستون" رئيس الوزراء البريطانى عام 1887: "إننا يجب أن نسيطر على السودان, ثم نمد أيدينا من فوق خط الاستواء إلى جنوب إفريقيا لتقوم إمبراطوريتنا الإفريقية" واعتبارا من يوم 15 يونيو عام 1895 تم إعلان حدود فاصلة بين مصر والسودان.. وتم إجلاء المصريين من السودان وأوغندا, وفرضوا على القوات المصرية مغادرة المنطقة.
إنشغل "محمد فريد" بمتابعة ما يحدث فى جنوب الوادى.. أدرك خطورته.. قرر محاولة المواجهة, فاتخذ قرار الاستقالة من القضاء عام 1896.. وأخذ الطريق نفسه مع "مصطفى كامل" من أجل تنوير الشعب المصرى واستنهاض طاقاته وقدراته.. وكان يؤلمه أن الانجليز فرضوا على الحكومة التى نصبوها أن توقع معهم إتفاقية عام 1899 التى جعلت السودان يتم حكمه إسما وشكلا من جانب مصر.. وفعليا تتولى سلطة احتلال السودان التحكم فى مقدراته, على أن تدفع الحكومة المصرية نفقات احتلالها للسودان!! وصدرت تعليمات "لورد جرانفيل" وزير الخارجية التى تقول بوضوح: "الوزير المصرى الذى لا يخضع لتعليمات ممثل بريطانيا فى مصر والسودان, عليه أن يستقيل من منصبه"!!
أدرك الذين حملوا رايات الوطنية المصرية, أنه لا سبيل لمقاومة ما يحدث سوى تشكيل حزب يجمع شمل المصريين لمواجهة الاستعمار.. ركز "مصطفى كامل" مع "محمد فريد" جهودهما على الدعوة لالتفاف الشعب تحت راية حزب يتبنى الوطنية المصرية.. إختاروا له اسم الحزب "الوطنى المصرى" واتجهوا إلى الطلاب والفلاحين.. وكانت "حادثة دنشواى" الشرارة التى أشعلت نيران النضال الذى كان هادئا.. صامتا.. ويوم 28 يونيو 1906 تفجر الغضب المكتوم فى الصدور.. ففى هذا اليوم تم إعدام أربعة فلاحين وجلد العشرات أمام أهل القرية بصورة همجية وكان المشهد شديد القسوة.. سافر "مصطفى كامل" إلى أوروبا وفضح جريمة الاحتلال.. تأثر "برنارد شو" بما سمع وعرف عما حدث فى "دنشواى" فكتب مسرحيته الشهيرة "جزيرة جون بول الأخرى".. وكان "محمد فريد" يقود تيار الغضب فى الداخل.. حرك طلاب كلية الحقوق للتظاهر.. أدركت الحكومة البريطانية أن الأمر قد يتطور, ويذهب إلى ثورة عارمة.. كان سير "هنرى كامبل" يتولى رئاسة الحكومة فى "لندن" فقرر دعوة "مصطفى كامل" والتقاه فى مكتبه.. إتخذ بعدها قرار بإجراء تعديل فى الوزارة التى كان يرأسها "مصطفى باشا فهمى" والد زوجة "سعد زغلول" ولامتصاص الغضب تم اختيار "سعد زغلول" وزيرا للمعارف باعتباره وجها مقبولا بين أبناء وطنه, ويلقى احترام قطاعات عريضة من الشعب.. ذهبت سلطات الاحتلال إلى ضرورة إنهاء مسئولية "اللورد كرومر" الذى تمت "حادثة دنشواى" بأوامره وترتيباته.. إختاروا دبلوماسيا اسمه "جورست" ليكون المندوب السامى الجديد فى شهر مايو عام 1907.. وترتب على ذلك إيمانا أكثر وقناعة أعمق بأنه أصبح ضروريا أن يلتف المصريون فى تنظيم يقدر على انتزاع الاستقلال.
عاد "مصطفى كامل" من أوروبا وتحدث أمام مؤتمر شعبى بضاحية "زيزينيا" فى الإسكندرية.. يومها تحدث عن مصر فقال: "بلادى,, بلادى.. لك حبى وفؤادى.. لك حياتى ووجودى.. لك دمى ونفسى.. لك عقلى ولسانى.. لك لبى وجنانى.. فأنت.. أنت الحياة.. ولا حياة إلا بك يا مصر".. وأطلق دعوة إنشاء "الحزب الوطنى المصرى" ودعا يوم 22 اكتوبر 1907 من الإسكندرية إلى عقد أول مؤتمر للحزب يوم 27 ديسمبر بمقر جريدة "اللواء" وتم خلال هذا اليوم انتخابه رئيسا.. وانتخاب "محمد فريد" وكيلا أول للحزب.. ولم تمض سوى أيام قليلة حتى توفى "مصطفى كامل" يوم 10 فبراير عام 1908.. لتشهد مصر حالة حزن تجاوزت أحزانها على رحيل "محمد عبده".
عاش "مصطفى كامل" عمرا قصيرا.. لكن نضاله كان طويلا وعريضا وعميقا.. إستحق الدراسة داخل مصر وخارجها.. وكانت دراسة "أرثر إدوارد جولد شميث" التى نال عنها درجة الدكتوراه هى الأبرز والأكثر رصانة.. فقد جعل عنوانها "الحزب الوطنى المصرى.. مصطفى كامل – محمد فريد" وتم إنتاج فيلم يحكى سيرته.. لعب بطولته "أنور أحمد" وأخرجه "أحمد بدرخان" عام 1952 بعد ثورة 23 يوليو.. واستحق كل تقدير من الثورة بإنشاء متحف خاص به ونقل جثمانه مع رفيق كفاحه "محمد فريد" إلى ضريحهما الحالى.
إختلف أسلوب "محمد فريد" الذى انتخبه الحزب رئيسا.. وكان مثيرا أن "على فهمى" شقيق "مصطفى كامل" ترشح أمامه منافسا.. لكن قيادات الحزب برهنوا على نضج غير عادى, بانحيازهم إلى رفيق الدرب على حساب الشقيق!! وعقب إعلان نجاح "محمد فريد" رئيسا للحزب "الوطنى المصرى" تلقى اتصالا من "الخديوى عباس الثانى" لتهنئته ودعوته للقاء فى قصر عابدين.. شهد اللقاء مجاملات شديدة من الخديوى مع عرض الدعم عليه, فقال له: "من النافع جدا أن تكون على رأس الحركة الوطنية.. شخص مثلك لا يحتاج إلى المال ولا يطمع فيه.. وانت ابن أسرة أخلصت فى خدمة البلاد.. وقد عرفنا عن أبيك أخلاقه الفاضلة وأمانته وإخلاصه.. كل هذا يجعل صعبا على الانجليز القول أنك تسعى وراء شهرة أو مال أو منصب"!! ثم عرض الخديوى عليه دعم جريدة "اللواء" التى كانت تصدر باللغتين العربية والفرنسية.. ويحكى "محمد فريد" فى مذكراته أنه "شكر الخديوى.. ورفض العرض حتى لا يصبح أسيرا للحاكم"!! وهنا يلزم التوضيح بأن الانجليز كانوا قد اصطادوا "الخديوى عباس الثثانى" عبر شبكة الفساد المالى.. إلتقطوا شراهته للمال, فأطلقوا يده ليغرف من أموال الأوقاف وبيع الرتب والألقاب.. كان "محمد فريد" يعرف ذلك بتفاصيل جعلته يرفض بحسم أى دعم منه, لأن "الخديوى" كان يؤمن بأن المال أقوى وأخطر سلاح لقهر الرجال!!
كان أول عمل قام به "محمد فريد" كرئيس "للحزب الوطنى المصى" أن قام بإرسال برقية إلى وزير الخارجية البريطانى.. ركز فيها على أن يطالبه بأن تفى بلاده بوعودها بالجلاء عن مصر.. ثم أرسل برقية إلى "الخديوى" ووزير "الحقانية" – العدل – يطالبهما بإلغاء المحكمة المخصوصة التى حاكمت أبناء "دنشواى".. ثم قرر إنشاء "نادى الحزب الوطنى المصرى" وجعل عضويته بمقابل ثمانية جنيهات سنويا للمقيمين بالقاهرة, وأربعة جنيهات لأبناء المحافظات.. ثم أعلن فى أول خطبة له أمام أعضاء الحزب فى شهر ابريل 1908: "نحن لا نطلب الدستور من انجلترا.. بل نطلبه من حاكم البلاد الشرعى.. وإذا كان الحاكم الشرعى لا يستطيع منحنا مجلسا نيابيا أو دستورا إلا بعد استشارة بريطانيا.. فنحن نعلن بأننا نفضل عدم الحصول على دستور, حتى نحصل على الاستقلال".. وأطلق دعوة للشعب بحملة توقيعات تطالب بدستور وتطلب الاستقلال.. حدث تفاعل إيجابى مع الدعوة كان مذهلا.. كما كان مفزعا لسلطات الاحتلال.. وقع على العريضة 45 ألف مواطن, وفى رواية أخرى وقع عليها 75 ألف مواطن.. وذلك يشير إلى أن أول محاولة لجمع توقيعات الشعب على مطالبه, كانت من جانب "محمد فريد" وأنها سبقت عريضة تشكيل "الوفد المصرى" للمطالبة بالاستقلال.. وقرر بعدها القيام بجولة بين "فرنسا" و"بريطانيا" لتأكيد رفض حزبه لدستور فى ظل الاحتلال.
إستشعر "الخديوى عباس الثانى" أن "محمد فريد" يأخذ الحركة الوطنية إلى طريق لا يقدر عليه.. أراد أن يؤكد للسلطان "عبد الحميد" فى "الآستانة" أن هذا ليس طريقه.. وكان لا يقدر على مواجهة "جورست" الذى يمثل سلطة الحاكم الفعلى للبلاد.. فطلب فى شهر سبتمبر عام 1908 من "أحمد شوقى" الذى أصبح فيما بعد "أمير الشعراء" أن يدلى بتصريح نيابة عنه.. وكانت وظيفته المتحدث باسم الخديوى.. يعلن فيه أنه لا يمكنه أن يقوم بأى تغيير جذرى فى سياسات مصر وبشأن تشكيل حكومتها دون موافقة بريطانيا.. ونشرت جريدة "المؤيد" التصريح!!
عند هذه اللحظة أصبح "محمد فريد" على طرف نقيض مع "الخديوى عباس الثانى".
لتأكيد ذلك شارك "الخديوى" فى استعراض للجيش البريطانى تم تنظيمه لمناسبة عيد ميلاد ملك بريطانيا.. ثم أعلن إقالة وزارة "مصطفى فهمى" وعهد إلى "بطرس غالى" بتشكيل وزارة جديدة.. فبدا كما لو كان الأمر مكافأة له على التفريط فى السودان.. ليبدأ فصل عنيف من الصدام الذى وضع خطوطا تحت منهج "الحزب الوطنى المصرى"!!.. يتبع