مثل اليوم كان 28 يناير عام 2011 يوم جمعة ، إلا إنه على عكس الصقيع الشديد اليوم ، كان يوما دافئا ساطعة شمسه ، ولعل فى هذا مافيه من المصادفات التاريخية العجيبة ، لكنها المصادفات التى توافق الضرورات ، فقد كان الطقس الطبيعى لذلك اليوم مواتيا تماما لثورة ملايين المصريين ، مثله مثل الوضع السياسى المتأزم فى البلاد وقتها .
و إذا كانت ثورة يناير قد شهدت ميلادها يوم 25 يناير بنزول بضعة آلاف من الشباب المناهض لنظام مبارك للشارع ، ونجاحهم فى اختراق الحواجز الأمنية والنجاح فى الوصول لميدان التحرير والإعتصام به ، وهو الحلم الذى ظل يراود خيال الثوريين لسنوات طويلة ، فإن تحول مطالب المحتجين من الهتاف ضد العادلى والداخلية إلى المطالبة برحيل مبارك وسقوط النظام ، لم يتجسد فى حقيقة ثورية معترف بها إلا بعد ظهر يوم 28 يناير بعد إنطلاق مظاهرات غضب مليونية هادرة من كل مساجد مصر عقب صلاة الجمعة بشعارات واحدة تدعو لرحيل مبارك وسقوط النظام .
إن ماحدث يوم جمعة الغضب تعبير عن حقيقة أساسية مفادها أن الشعب وحده هو الذى يقرر ويحدد توقيت ثورته التى لا تستطيع أى نخبة سياسية تحديدها ولا أذكى الإستخبارات فى العالم التنبؤ بها . هكذا كان الجميع مذهولين ، حتى إن هيلارى كلينتون وزيرة خارجية أمريكا التى يتبجح البعض بادعاء أنه كان لها دور ما هى ومخابراتها ، قالت فى تصريح معروف بعد وصول المحتجين للتحرير أنها تعتقد أن "النظام مستقر " و أنها تدعو الحكومة المصرية لتنفيذ الإصلاحات . لم تكن تعرف أن زمن الإصلاحات قد فات ، و أن مبارك على وشك الرحيل والنظام على وشك السقوط .
ولقد وصلت شخصيا إلى هذه النتيجة المحتمة وقتها بعد بعد صلاة الجمعة ، بعد أن خرجنا نحن القوى السياسية المعارضة فى البحيرة من مسجد الأتوبيس بدمنهور ( مسجد ناصر ) ، أكبر مساجد المدينة ، ونحن فى النهاية مجموعة لاتزيد عن أربعين شخصا ، ولكن المسجد بأكمله ، مايزيد عن ألفى شخص خرجوا و بصوت واحد هاتفين الشعب يريد اسقاط النظام . ولم تنجح الحشود الأمنية فى المحيط من منع كل هذه الأعداد من التظاهر ، كما لم تنجح كذلك حشودهم أمام المساجد الأخرى ، وتقدمنا للأمام وسط متظاهرين يتزايد عددهم كل دقيقة . وحاولت قوات الأمن منعنا فى شارع عرابى الشهير أمام محل باتا القديم ، ولكن حشود الشباب وقد كنت معهم فى المقدمة تدافعوا بشجاعة غير مسبوقة ، ففر الجنود بعد دقيقتين لا أكثر إلى الجانب الآخر من الشارع .
وهذه هى اللحظة التى أيقنت فيها أننى أشهد بأم عينى ثورة للشعب المصرى لايقوى النظام ولا قواته على مواجهتها . فروا ولكنهم بدأوا إطلاق قذائف الغاز علينا ، وكانت تسقط تحت أقدامى مباشرة ، ولكن هذا لم يرهبنا ، كانت الحشود والمظاهرات تتدفق من كل أنحاء المدينة نحو ميدان الساعة الشهير ، ميدان الثورة بدمنهور و البحيرة ، ثم تواصل التقدم لشارع عبد السلام الشاذلى حيث مقر ديوان المحافظة ، وهناك كان امتداد الحشد البشرى لانهاية له ، ليس أقل من خمسين ألفا وسط ذهول رجال المباحث الذين حضروا للمكان ، و تراجع جنود الأمن المركزى فى عرباتهم ، و أصبحت السيادة فى المكان للشعب . المشهد كان هو نفسه فى كل أرجاء مصر من القاهرة والإسكندرية ومختلف المدن أكده الزملاء من كل المواقع . هذه إذن هى الثورة التى كنا نحلم بها ونبشر بها وننتظرها !
وكان يوما له بداية وليس له نهاية . فمع سقوط الشهداء تحول المشهد تدريجيا لاشتباكات مع الشرطة التى توسعت بشكل غير مسبوق فى إطلاق قذائف الغاز فى ميدان الساعة وسط المدينة ، ولكن آلاف الشباب كان لهم تصميم هائل على المواجهة ، واستمروا فيها من عصر الجمعة لعصر السبت . كانوا يفرون ويعودون ويتدفقون من الشوارع والحارات ، إلى أن لجأت قوات الشرطة للفرار من الميدان ، و أصبحت المدينة ومصر بأكملها فى يد الجماهير .
تاريخ لاينسى !
تعليقات
إرسال تعليق
أترك تعليق