JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

-->
أحدث المواضيع
الصفحة الرئيسية

السفير معصوم مرزوق يكتب : في فقه النكسة والعبور


كلما شاهدت فيلم «العصفور» ليوسف شاهين، أعادني الفيلم ـ وخاصة المشاهد الأخيرة ـ إلى سنوات طويلة مضت، تبدو الآن بعيدة جداً وحاضرة جداً في نفس الوقت.. كيف لا وقد مضى على نكسة يونيو أكثر من نصف قرن ؟.. 

تلك اللحظة التي انتهى فيها جمال عبد الناصر من خطاب التنحي الشهير، وخروجي مندفعاً إلى الشارع حيث وجدت الآلاف غيري، وحصارنا لقسم الشرطة القريب ونحن نصرخ مطالبين بالسلاح، ومأمور القسم المسكين وقف حائراً يحاول تهدئة الجموع وطمأنتهم بأنه طلب الإمداد بالسلاح كي يوزعه علينا.. 

ذلك المساء الغريب، حيث دوت طلقات المدافع المضادة للطائرات بشكل كثيف ومزعج لم يكن يعلو عليها آنذاك سوى صوتنا الذي يردد دون توقف:«ها نحارب.. ها نحارب».. 

بشكل ما أعتبر هذه اللحظة أهم وأعظم وأخطر من لحظة أخرى شاء الله أن أشهدها، وأعني لحظة عبور قناة السويس، فاللحظة الأولى أهم لأنها كانت في موقف هزيمة وانكسار، بل وتتجاوز ذلك إلى موقف اختبار وتحد لأسئلة مجهولة، لحظة لم نكن نعرف ما تخفيه الأقدار خلفها، بعكس لحظة العبور التي كانت بكل تأكيد موقف انتصار، وكنا بالتأكيد نعرف الهدف ونتوجه إليه بكل قوة وإصرار مهما كانت التضحيات.. 

تلك اللحظة المنكسرة كانت في المقارنة أعظم لأنها عكست بشكل واضح كل ما في هذه الأمة من صلابة ونبل وتراث، وكشفت عن المعدن الأصيل الذي تجلى في وقت المحنة الكبري، وإن كان ذلك لا يقلل من عظمة لحظة العبور، ولكن تبقى تلك العظمة الأخيرة فرع من الأصل، والبعض لا يطاول الكل أو يساويه.. 

أما أن لحظة النكسة كانت أخطر، فلا يمكن أن أجد الكلمات الكافية التي تعبر عن هذه الخطورة، لقد كانت صدمة هائلة كفيلة بضياع الأمة لأحقاب طويلة، وذلك هو ما توقعه كل المحللين بقياساتهم وحساباتهم الباردة، وما رآه العدو كنتيجة طبيعية لما حدث، وأكاد أقول ـ بدون مبالغة ـ أننا على شاطئ قناة السويس في لحظة العبور لم نشعر بهذا النوع من الخطر، فقد غمرنا شعور جارف بالنصر منذ اللحظة الأولى.. 

منذ ذلك التاريخ البعيد، كتبت عشرات بل مئات المقالات والخواطر والذكريات حول تلك اللحظة الحزينة، وكلما اقتربت الذكري أجدني، وبشكل غير واعٍ، أستعيد المشهد، وأعقد المقارنة بين تلك اللحظة ولحظات أخرى عديدة حملت بعدها العديد من المشاهد الأخرى..

 أشعر بأن الستار لم يسدل بعد على ذلك المشهد البعيد، وأن الفصول تتوالي وتتغير الإضاءة كي تعكس مرور الزمن، ولكن الديكورات لا تزال في مكانها، والشخوص لا تزال تبدل ملابسها وأقنعتها ولكنها نفس الشخوص، والجمهور مسترخ على مقاعده متفرجاً على الفصول المتكررة..قد يتثاءب أو ينام أو يصرخ متألماً أو يبكي في صمت، لكنه قابع في ظلام القاعة يتابع المشاهدة.. ولا تزال المسرحية مستمرة .

تملأني رغبة جامحة في أن أجمع كل الصفحات التي كتبتها في هذه الذكرى على مر السنين، حيث أنها حملت في كل عام مشاهد وخواطر وذكريات مختلفة، ولكن يجمع بينها جميعاً أنها فصول مختلفة من مسرحية واحدة.. . ورغم هذه الرغبة أتساءل عن الجدوي.. هل هي مجرد إشباع لذات تسعى لإستخلاص بعض الحقائق ؟ أم أنها نزوة كاتب يريد أن يعيد على الناس مشاهد مسرحية يحفظونها عن ظهر قلب ؟ أم مجرد محاولة كي أترك لأجيال قادمة بعض مشاهد زمن مررت به، قد يجدون فيها فائدة ما؟ ..

فلقد غطست مثلاً منذ سنوات في الوثائق السرية الاميركية التي أفرج عنها كي أستخرج منها مشاهد جديدة لنفس الفترة الحاسمة من حياتي وحياة أمتي، وبعد رحلة عذاب ومعاناة وبحث لم تبتعد المشاهد التي استخلصتها كثيراً عن نفس المشاهد التي عاينتها، والخلاف لم يكن في النوع وإنما في الدرجة، أي في بعض الألوان والإضاءات والظلال... ولكنها نفس الملهاة ـ المآساة...

لذلك فأنني أكافح هذه الرغبة، وأسارع مثل الآخرين إلى مقعدي المحجوز في القاعة المظلمة بين المتفرجين كي أشاهد تتابع الفصول قد أتثاءب أو أنام أو أصرخ ألماً أو أبكي في صمت ـ تماماً مثل الآخرين ـ.. وربما الخلاف الوحيد هو أنني أكتب، وأنني لم أمت مثل بعض رفاقي في حرب العبور ..

أن فيلم « العصفور» وثيقة فنية وتاريخية هامة تؤكد أن الفن الصادق يتجاوز حدود الزمان والمكان، أنه شريحة مقطعية في تلك الفترة المفصلية التي عاشتها أمتنا، وتكاد أغنية «مصر يا أمه يا بهية» أن تكون أغنية كل العصور، بما فيها من شجي ومعنى وإستقراء لواقعنا، بل وبما فيها من إصرار وتحد في وجه المحن... 

لقد أطلق يوسف شاهين «العصفور» من قفصه في لقطة معبرة، وكأنها دعوة أو أمنية أو رسالة، ولا يدري أحد أين ذهب ذلك العصفور إلى درجة الشك في أنه قد غادر القفص أصلاً، وإن كنت أرى أن ذلك العصفور لا يزال حبيساً في أقفاص أخرى، في القفص الصدري يغرد بأغنيات الزمن المقبل، يحلم بالأفق والأشجار والتحليق، يدندن من حين لآخر في الذكرى السنوية أنشودته الخالدة: «مصر يا أمه يا بهية " ..

أغنية ( مصر يأامه يا بهية

https://youtu.be/wb9QqC3h7mY

author-img

أخبار التاسعه

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق
    الاسمبريد إلكترونيرسالة